جدول المحتويات
ولعل من أخطر تلك الآفات ما يصاب به بعض المنتسبين للثقافة من تعاظم مارد الأنا حتى لتبصر بعضهم يندندن بالفكرة ما يعرف أولها من آخرها ثم إذا صححت سلقك بلسان حاد تعود الحدة وأصابته علة الهذر،
وتلازم هذه الآفة في الغالب آثار جانبية منها التعصب الذي يتخفى صاحبه ببرقع "العمق" المكذوب ليغرقك بمصطلحات كثيفة، ويخلط من إنتاج الآخرين فكرة معوجة في مقدماتها ومصادراتها ونتائجها، ثم يزعم أنه لا يمكن العامة فهمه فقد اغترف من بحر لا قبل لهم بخوضه.
وآفة أخرى ابتلينا بها ولو كان أبو عثمان حيا لأفردها برسالة وأتخيل أن رسالته حولها ستكون معنونة بـرسالة "الإغراب والتسطيح" أي وربي إن هذا لمن الأدواء التي بها ابتليت الأمة ما بين مغرب ارتمى في فكر الآخر ولما يكتسب بعض الحصانة ضد سمومه فأنهكته من حيث لا يشعر وسطحي يعض بالنواجذ على كل شيء من تراكمات تفكير الأمة يحسب ذلك واجبه، فتتلبسه السطحية من حيث لا يحتسب وإنما مثلهما كمثل من أصيب بآفة ثالثة اسمها نهم المثقف وهي كما عبر عنها القدماء انصراف أهل العلوم إلى تسخير علومهم لإشباع رغبات بطونهم وهذه تكاد تكون أعظم مرض ثقافي معاصر والمضحك فيها أن السلاطين قديما كما كانوا يحتفون بالكتب إذ تهدى إليهم أما الآن فقد أعرضوا عن الكتب والكتاب وربك فعال لما يريد.
وآفة رابعة يصاب بها المفكرون وما كان لهم أن يكونوا كذلك هي آفة الانعزال إلى ما يشبه الجنون حتى لكأن العلم تحول إلى خبل لا يعنى صاحبه بإصلاح الحال، ولا يضرب في الواقع بسبب.
على أنه لكل آفة عرض، قد يقتصر على المثقفين وقد ينقلونه إلى أمة فيستحيل حالة وبائية على لغة، "الأطباء" فحيثما رأيت أمة أدمنت "التكديس" واجترار الأفكار والدوران في الحلقات المفرغة، فاعلم أنها أصيبت بالعطالة الثقافية. على حد تعبير المسدي.
وأعظم خطرا من ذلك وأظهر أن يصيبنا داء الانبهار فنتركح في متاهات التقليد لا نلوي على شيء نمجد ما مجده الآخر ونكره ما كره ونلس كما يلبس لا نتمسك بخصوصية ولا نطرح أي استفهام.
إننا بحاجة إلى الحذر من أدواء الفكر وتحسس مظاهرها في أنفسنا وفي أمتنا ولن يكون ذلك ما لم ندمن النظر في جملة أمور.
أولها الحرص على تراتبية القيم حتى لا يشط بنا التفكير فنعلى شأن قيم جزئية ونغفل عن أخرى هي من الثوابت وما شأن الحرية والعدل والعلم عنا ببعيد.. لقد أصاب أمتنا ما أصابها حين أبقت هذه القيم في كان قصي من تفكيرها فعطل العقل، وأحكم الجهل والاستبداد قبضتهما.
وثانيها: الانطلاق من أدوات منهجية واضحة المعالم تحتفي بقدرة العقل وتستنير بنور الوحي وتتجاوز الترديد إلى الاستشكال، وتجمع بين التجريد والفاعلية.
ورحم الله الجاحظ إذ يقول (فإذا أصبنا بآفات الفكر خف حظنا من الحكمة وانقطع سببنا من المعرفة، وقصرت الهمة، وضعفت النية فاعتقم الرأي وماتت الخواطر، ونبا العقل).
نقلا عن صحيفة "الأخبار إنفو" الأسبوعية