جدول المحتويات
إسرائیل: ھروب دموي إلى الأمام
لا بد من الاعتراف بحقیقة واضحة، وھي أن الاتفاقيات الإبراھيمية تخدم بشكل جلي مصالح الدولة العبریة وبعض الأنظمة العربیة، وتأتي لتدفن بحكم الأمر الواقع حل الدولتین.
لقد تم تھمیش قضیة احتلال إسرائیل لفلسطین وحقوق الفلسطینیین، وألُقي بھا إلى المرتبة الثانیة، بل والثالثة.
إن دعم ھذه الاتفاقیات یعني التخلي عن القدس، المكان المقدس لدى المسلمین. علاوة على ذلك، فإن استخدام اسم النبي إبراھیم (علیھ السلام) ھو توظیف سیاسي غیر مقبول لوصف سلامٍ خالٍ من العدالة، في حین أن ھذا النبي الكریم یرمز إلى الإیمان الخالص، والاستقامة، ورفض الظلم والوثنیة.
“بالنسبة للكثیر من المسلمین، یُنظر إلى الاتفاقیات الإبراھیمیة على أنھا خیانة دینیة، وتحالف نجس مع الظالم، واستسلام مخزٍ یُقدم على أنھ سلام”.
وفي انتظار دخول ھذه الاتفاقیات المشؤومة حیز التنفیذ، تواصل إسرائیل والولایات المتحدة اعتداءاتھما في الشرق الأدنى والأوسط. فبعد أن دمروا العراق وسوریا ولبنان ولیبیا وفلسطین، ھا ھم الغربیون وإسرائیل یریدون الیوم، عبر بوابة الاتفاقیات الإبراھیمیة، استھداف أثمن ما لدى المسلمین وأقدسھ: عقیدتھم.
ومع ذلك، فإن الفطرة السلیمة وأبسط قدرات التمییز ترفض ھذه المقاربة العبثیة التي یطرحھا نتنیاھو لمشروع “شرق أوسط جدید”. وبعیدًا عن المصالح الآنیة، لا بد من الاعتراف بحقیقة أخرى واضحة: یبلغ عدد الیھود الذین یقطنون الدولة العبریة حوالي سبعة ملایین. في المقابل، یبلغ عدد الفلسطینیین الموجودین على أرض فلسطین ثمانیة ملایین. ویتوزع ھذا العدد على النحو التالي: ملیونان ونصف في غزة، وثلاثة ملایین في الضفة الغربیة، وملیونان ونصف من العرب “الإسرائیلیین”. ھذا دون احتساب ما یقارب ستة ملایین لاجئ فلسطیني، لا سیما في الأردن ولبنان وسوریا.
وھذا یعني أن الفلسطینیین في فلسطین المحتلة یشكلون أغلبیة عددیة. أضف إلى ذلك خمسمائة ملیون عربي یطوقون الدولة العبریة الضئیلة. في ظل ھذا الوضع الجغرافي غیر المواتي، ھل ستتمكن الدولة العبریة، مھما بلغت قوتھا العسكریة ودعمھا الخارجي، من الازدھار على المدى الطویل في بیئة معادیة إلى ھذا الحد؟
العودة إلى الشرعیة الدولیة من أجل سلام دائم
إن الحل المعقول الوحید للدولة العبریة ھو إحلال سلام دائم بین الإسرائیلیین والفلسطینیین على أساس الشرعیة الدولیة وتطبیق القرارات المتعددة لمجلس الأمن والجمعیة العامة للأمم المتحدة. ویعني ذلك العودة إلى حدود عام 1967 وإنشاء دولتین تعیشان جنبًا إلى جنب، وتكون الدولة الفلسطینیة وعاصمتھا القدس الشرقیة.
مرة أخرى، لن یؤدي الھروب إلى الأمام إلى أي مكان، سوى دمار الدولة العبریة مع مرور الوقت.
فبكل منطق، فإن تضافر عدة عوامل مقلقة بشكل خاص بالنسبة لإسرائیل من شأنھ، من حیث المبدأ، أن یدفع نحو حل سلمي ودائم بین الخصمین في فلسطین المحتلة.
فالأجیال الفلسطینیة الصاعدة لن تتخلى أبدًا عن تحریر وطنھا، وستحمل الشعلة دائمًا قوات مقاتلة جدیدة. كما أن معظم الحكام العرب الحالیین سیتم استبدالھم حتمًا، في وقت أو آخر، بآخرین أقل تساھلاً تجاه إسرائیل، ناھیك عن أن ترامب مجرد عابر سبیل في البیت الأبیض، وأنھ مع وجود صراع كبیر یلوح في الأفق في منطقة المحیطین الھندي والھادئ، قد تعید واشنطن النظر في أولویاتھا الاستراتیجیة.
وھناك تھدیدات أخرى تزید من قتامة المشھد فوق الدولة العبریة، ولنستعرضھا:
– المجازر المرتكبة بدم بارد من قبل جیش الكیان الصھیوني قد شوھت صورة إسرائیل في العالم بشكل كبیر.
– الرأي العام الدولي، خاصة في أوروبا والولایات المتحدة – الدول الحلیفة تقلیدیًا لإسرائیل – یدین بقوة الانتھاكات والجرائم ویحمّل الكیان الصھیوني مسؤولیة الإبادة الجماعیة التي تحدث في غزة.
– ضغوط العدالة الدولیة، لا سیما من محكمة العدل الدولیة والمحكمة الجنائیة الدولیة، مع صدور مذكرة توقیف بالفعل ضد نتنیاھو بتھمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانیة.
– تتخذ معاداة السامیة بعدًا عالمیًا مقلقًا بشكل متزاید للیھود.
– الإسرائیلیون الذین یخشون الحرب وعدم الاستقرار یغادرون إسرائیل بأعداد كبیرة. ووفقًا لإحصاءات رسمیة، فإن أكثر من ثلث الإسرائیلیین قد غادروا بلادھم.
– جیش الدفاع الإسرائیلي یعاني من نقص في الأفراد، فالكثیر من جنود الاحتیاط لم یعودوا یرغبون في الخدمة بالجیش، كما أن الصدمات النفسیة المصاحبة للحرب تفتك بالقوات المقاتلة.
– الاقتصاد انھار بشدة، والدین الخارجي ارتفع بشكل صاروخي، والمستثمرون الأجانب ھربوا من البلاد، وتم تخفیض التصنیف الائتماني لإسرائیل من قبل وكالات التصنیف الدولیة، كما تعطلت حركة الملاحة في الموانئ والمطارات بشكل كبیر.
– الانسجام بین كبار المسؤولین في الدولة یتعرض لاختبار قاسٍ، فالحكومة والجیش على خلاف متزاید بشأن إدارة وأھداف الحرب.
للبقاء في السلطة والھروب من محاكمة بالفساد ستعني نھایتھ السیاسیة، أشعل نتنیاھو النار في المنطقة، ودخل في دوامة من العنف لم یعد قادرًا أو راغبًا في السیطرة علیھا، فالأمر أشبھ بركوب الدراجة، إذا توقفت عن الدواسة، تسقط. فلا تھم الدمار والمجازر والخراب والموت، كل ما یھمھ، في اعتقاده، ھو أن یخلدّه التاریخ كالرجل المُنقذ الذي أنقذ مستقبل إسرائیل ومصیرھا. لكنھ في الواقع، أثبت أنھ استراتیجي فاشل. فمرة أخرى، ألَّب العالم كلھ ضد بلاده. والرأي العام الإسرائیلي یحمّلھ المسؤولیة الشخصیة عن أحداث 7 أكتوبر، وكذلك عن مقتل الرھائن بسبب عناده وعدم إطلاق سراح من لا یزالون على قید الحیاة.
نتنیاھو قدّم مصالحھ الشخصیة على مصالح الكیان الصھیوني بتصرفاتھ غیر المسؤولة، أضعف نتنیاھو بشكل كبیر أسس الدولة العبریة داخلیًا وخارجیًا على حد سواء. ومتجاوزًا ستار خدمة المصلحة العلیا لبلاده الخادع، قام في الواقع بتعبئة جیشھ وموارد الدولة لیخدم، في نھایة المطاف، مصالح شخصیة بحتة.
إن حصیلة الحرب في غزة وضد إیران ھزیلة، بل ومعدومة، رغم تبجحات نتنیاھو. فلا تزال حماس تدیر، رغم كل الصعاب، القطاع الفلسطیني، كما لم یتم تحریر الأسرى الإسرائیلیین بالقوة. وفي إیران، ورغم الضربات القاسیة التي وجھھا الجیش الأمریكي بشكل خاص، لا یزال البلد صامدًا ویعید بناء قدراتھ العسكریة شیئًا فشیئًا، لا سیما دفاعھ الجوي. وفي المقابل، كانت الخسائر البشریة والدمار في إسرائیل ھائلة منذ 7 أكتوبر، ویسود سكانھا ھلع غیر مسبوق.
على إسرائیل أیضًا أن تستوعب معطى أساسیًا: فالاتفاقیات الإبراھیمیة، لو قدُّر لھا أن ترى النور، فلن تشكل حلاً سحریًا. ذلك لأنھا ستمثل بالنسبة للمسلمین مبادرة تتعارض مع العقیدة الدینیة الصحیحة.
والعلماء یقفون بحزم ضد ھذا الانحراف الخطیر عن المسار الذي رسمھ رسول ﷲ. بالنسبة لھؤلاء العلماء، تُعد الاتفاقیات الإبراھیمیة توظیفًا سیاسیًا للدین. وفي المقابل، یشجع الإسلام التفاھم والتبادل والحوار مع جمیع الأدیان، ولكن بحدود لا یجب تجاوزھا.
كل ما سبق یجب أن یدفع الدولة العبریة، في نھایة المطاف، إلى مراجعة استراتیجیتھا في المنطقة.
المخرج الوحید لإسرائیل ھو العودة إلى الشرعیة الدولیة وإقامة دولتین في فلسطین المحتلة من أجل سلام دائم. ومن ھذا المنطلق، فإن جولات المفاوضات المحتملة التي قد تتوج ھذه العملیة یجب أن تتضمن بعض النقاط المھمة، ومنھا:
– تبادل للأراضي یسمح بالاتصال الجغرافي للدولة الفلسطینیة المستقبلیة عبر ربط الضفة الغربیة بغزة.
– تسلیم إسرائیل للدولة الفلسطینیة المساكن والبنى التحتیة التي تؤوي المستوطنین الیھود في الضفة الغربیة والقدس الشرقیة، على سبیل التعویض عن التدمیر الممنھج للمدن وفقدان الممتلكات الفلسطینیة.
– تعویضات مالیة كبیرة تتحملھا الولایات المتحدة وإسرائیل.
– مؤتمر دولي للمانحین تحت رعایة الأمم المتحدة لإعادة إعمار غزة والضفة الغربیة.
القطرة التي أفاضت الكأس
إن الاقتراحات السابقة ھي على الأرجح مجرد أمنیات بعیدة المنال. فعلى الرغم من خطورة الوضع، یعطي الحكام الإسرائیلیون انطباعًا بأنھم یعیشون في عالم موازٍ. وأكثر من أي وقت مضى، أصبح شعارھم ھو الھروب إلى الأمام.
ومع ذلك، فإن سیاسة الإبادة الجماعیة الممنھجة التي تنفذھا إسرائیل في غزة قد شوھت صورة ھذا البلد إلى حد كبیر وجعلتھا منبوذة من الأمم. وكأن ذلك لم یكن كافیًا، اتخذ قادة الدولة العبریة قرارًا قد یكون وخیم العواقب، ظنًا منھم أنھم بذلك سیفشلون الاعتراف الدولي بدولة فلسطین.
فما ھو ھذا القرار؟ إنھ یھدف إلى تقسیم الأراضي الفلسطینیة إلى قسمین من خلال إقامة مستوطنة جدیدة. ھذا المشروع، المعروف بالرمز E1، سیفصل شمال الضفة الغربیة عن جنوبھا، مما سیمنع أي اتصال بین رام ﷲ والقدس الشرقیة وبیت لحم في الجنوب. وبالتالي، سیصبح من المستحیل عملیًا إقامة دولة فلسطینیة ذات تواصل جغرافي. لن یتمكن الفلسطینیون بعد الآن من التنقل بحریة، وسیضطرون إلى البقاء محصورین في أحد جزأي الضفة الغربیة، أو الخضوع لسیطرة أمنیة من الجیش الإسرائیلي للانتقال من منطقة إلى أخرى.
فھل یمكن للمجتمع الدولي أن یقف عاجزًا أمام وضع مأساوي وغیر عادل ولا أخلاقي إلى ھذا الحد؟ متى ستنتھي غطرسة الدولة العبریة وإفلاتھا من العقاب؟ ومتى سینتھي انتھاكھا الصارخ والمتعمد والمستمر للقانون الدولي؟
یتبع: نشأة وآفاق تطور الصراع الإسرائیلي الفلسطیني.