جدول المحتويات
ولأن الهاتف استمر في الرنين فقد بادر بالضغط على الإرسال كي لا تفوته المكالمة ويضطر لطلب المتصل…
ألو… Oui!… هكذا افتتح المكالمة بلهجة مألوفة قبل أن يستبين صوت المتكلم… الذي اتضح أنه بعيد وغير مألوف!
اشتد انتباه الميكانيكي العجوز فنهض واقفا وترك المقعد الحديدي خلفه، وقد أيقن أنها مكالمة غير عادية.
كان ذلك في مدخل أحدى ورشات تصليح السيارات القديمة جدا في الحي التجاري العتيق بالمدينة السنغالية الصحراوية. إنه كراج الحاج "انجاي" المعروف هناك منذ القدم.
كان أصلا يقع في نهاية أحد الشوارع بجانب شجرة سدر ظليلة. كان عمال الكراج وأطفال الحي يجنون نبقها قبل نضجه، وكان "آلاجي" انجاي ـ والد بكاري ـ ينهرهم، ويقول لهم: لا أريد منعكم النبق ولكن انتظروه حتى ينضج… النبق الأخضر ضار جدا… "باخول"! ولكنهم كانوا يتحينون غفلته لجني النبق قبل أن يكتمل نضجه، باستثناء ما تنبت الأعالي فإنه لم يكن يسقط بسهولة قبل أن يميل للنضج؛ مع أن الفتيان بمن فيهم بعض صبية الورشة كانوا يستخدمون الحجارة وقطع المسامير والآلات المتكسرة لرمي ذؤابة الشجرة.. وهو ما كان يغضب والد الرئيس بكاري فيقول لهم بلغة الحكيم المربي إنهم يعذبون الشجرة ويفسدون ثمرتها الطيبة. وكان يرى ذلك من باب الطمع وسوء الطبع لدى الناشئة.
الشجرة تلك لم يعد لها اليوم وجود.. بل ولا مكان؛ فقد أصبحت الورشة بين جدران المنازل المحيطة وباتت كأنها في منزل بينها. ولكنها في الواقع تقع في رأس الشارع أي في مكان عام.
وقد استطاع الحاج انجاي بجاهه وثقة الناس فيه أن يملك المكان ويتفاهم مع الجيران الذين لا ينسون له دوره الاجتماعي والإصلاحي وسهره على نظافة الحي وأمنه ورعاية مسجده.
توفي الحاج أو "آلاجي" انجاي قبل خمس وثلاثين سنة، تاركا لابنه الثاني بكاري المشهور في شبابه بلقب "بوكار" ورشة الميكانيكا التي تناقص دورها بسبب انتشار ورش أحدث منها في المدينة، لكنها ظلت لها زبائن يقصدونها لإصلاح سياراتهم، وخاصة أولئك الذين يملكون سيارات قديمة أو من الطرز القديمة، وكذا الذين تقودهم سمعة بكاري الطيبة إلى "كراجه" المشهور.
هذا مع أن معظم أصحاب الورش الأخرى وعمالها الكبار يدينون صراحة لـ"بكاري" ووالده بالسبق وبتعليم الحرفة… بل يفتخر بعضهم بأنه خريج كراج الحاج انجاي بكاري.
ولكن بكاري الذي أصبح "الحاج بوبكر انجاي" بعد أن حج البيت واعتمر ووخط الشيب رأسه، لا يخفي عن بعض خواصه استياءه من تنكر بعض "تلامذته" له ولورشته، بل ولؤمهم وغدرهم بعد نجاحهم وتطاولهم في البناء والوظائف والنفوذ.. . ويقرر ذلك ختاما بلهجته الولفية: "آلدينا نونو له"، إن الدنيا هكذا تبذل للأوغاد ما ينسيهم قيمتهم الحقيقية، بل وتغريهم بالإساءة إلى كبرائهم وسَراتهم!
وفي الحقيقة فإن المكانة الاجتماعية والدينية الطيبة لوالد بكاري، وله من بعده، قد أنست الناس أنه من أصول خارجية. فهو نجل رجل بنباري جاء من بلاد مالي حين كانت هي والسنغال دولة واحدة. وقد توطن البلد وأنس بأهله حتى سمى نجله "انجاي"، وهو اسم ولفي حاد عن أصله البنباري. لكن انجاي نفسه أحيى ذكرى جده بتسمية ولده الثاني "بكاري"، لكن كالعادة يشتهر بكاري نفسه باسم أبيه "انجاي" تعظيما وتأصيلا.
قال المتكلم في الهاتف بلهجة ولفية واضحة:
* أذاك الحاج انجاي؟
فأجاب الحاج بكاري: نعم أنا هو. من ذاك؟
فأردف المتصل:
* كيف حالك؟
* من أنت؟
* ما عرفتني؟
* لا, لا. من تكون أنت؟
* تعرفني جيدا وأحب أن أعرف كيف أنت كيف صحتك، وكيف حال الأسرة والأهل، وأهل اللوغة كلهم؟
سكت العجوز قليلا وحول الهاتف عن أذنه ليحاول قراءة رقم المتصل مرة أخرى.
لم يتمكن من قراءة الأرقام بوضوح لكنه تأكد مرة أخرى من غرابة الرقم.
كان بكاري يملك نظارات، ولكنها أصبحت قديمة ولم تعد عدستاها تنفعان بسبب الخدوش، وأصبح نادرا ما يلبسها، خاصة بعدما لاحظ تحسن رؤيته بدونها مع تقدمه في السن!.
أعاد السماعة إلى أذنه بعدما تحرك خطوات مبتعدا عن ضجيج الورشة وقال لمهاتفه:
* لعله غلط. من أين تتصل ومن تريد؟
* اتصل من خارج سنغال. ولكن أنت الرئيس بكاري انجاي من أردت التحدث معه. هل هذا أنت؟
* نعم أنا بكاري انجاي صاحب كراج الحاج انجاي، فمن أنت؟
* ألم تعرفني حقا؟
* كلا، لم أعرفك.. ما الأمر إذن؟
قال ذلك بجدية وهو يريد اختصار المكالمة الغريبة. لكن المنادي كان على خلاف ذلك؛ راغبا في الاستمرار والتشويق أو التطويل.
فكر بكاري أن المكالمة ليست على حسابه على أي حال. ثم قال:
* تفضل (باسم الله)!
* معك الحق، ليس من المعقول أن تعرف صوتي الآن وقد غاب عنك سنين طويلة.
قال المنادي ذلك ليزيد من تشوق الميكانيكي العجوز ويقنعه بجدية مكالمته. وكان في ذلك صائبا فقد زاد اهتمامه بالمكالمة وأخذ يردد: قول المنادي: سنين طويلة!! محاولا تبين الصوت من جديد.
* أنت إذن من مدينتنا، وأنت الآن في فرنسا أو اسبانيا. هل أنت…؟
قاطعه المنادي قائلا:
* كلا أنا لست هناك… أنا في افريقيا، ولست بعيدا منكم. قل لي كيف صحتك وكيف حالك، وحال العمل والعيال والأقوام؟
بدا هذا الغموض للعجوز غير مبرر… وربما عبث عابث فأراد حسم الأمر:
* الجميع بخير، لكن لا متسع لدي لإهدار مزيد من الوقت. علي أن أعرف من أنت وما ذا تريد أو أنهي المكالمة.
قال المنادي في استعطاف:
* بالحق نطقت، وستعرفني الآن… أنا أحد تلاميذك القدماء، مدين لك بالتقدير. وربما كان من الأجدر أن يكون اتصالي قبل الآن بكثير، لكنك ستسمع أسبابا تنصفني وترضيك.
* نعم هذا جيد لكنك، إن كان كما قلت، تعلم أن لدي تلامذة كثر وقد مضوا لشؤونهم وتفرقوا في كل البلاد… فمن أنت؟ لا بد أنك واحد من أفضلهم وأكثرهم وفاء وإلا لما تجشمت إنفاق رصيدك بهذا الشكل اللطيف… قل لي بالضبط ما اسمك أو على الأصح الاسم الدلالي لك حين كنت تتعلم معنا في الكراج. في أي اختصاص كنت تتدرب؟
* لم يكن ذلك مهما، كنت معكم فحسب…
قاطعه بكاري موضحا:
* أعني أن تحديد ذلك يسهل علي تذكرك؛ لقد كبرت قليلا ولكن ذاكرتي ما زالت قوية، هل كنت مساعدا لي في…
هنا قاطعه المنادي:
* أنا حفيظ… ولد عبد الحفيظ، حيدره، البضاني… نسيتني؟
* البيضاني (نار)؟ حيدره… حفيظ؟؟!
ردد العجوز هذه الكلمات باستغراب ولكن بصوت مسموع قبل أن يقاطعه المنادي:
* ألا تتذكر ابنك البيضاني الذي كان يعمل معك ويطمح في أن يصبح أكبر خبير في كهرباء السيارات؟ سأذكرك بعلامة تدلك علي. ذات يوم زارك الوالد، والدي؛ وأعجبت به وحين أخبرك أن أصله شريف، طلبت منه "الحجاب والبركة"… وزرته مرتين على الأقل في حي "مدينا" الغربي…
* آآه.. أنت الغلام البيضاني الـﮕناري" بويْ نار"! نعم، تذكرتك، أجل… حيدره حيدره…
هكذا صاح العجوز وقد أمسكت ذاكرته المثقلة بركام الأيام صورة فتى بيضاني كان يتردد عليه وعرف عائلته عن طريقه، لكن دون أن يعرفه حق المعرفة. في الواقع لقد مر به غلمان من البيضان معظمهم سمر، ربما كان بينهم ذو بشرة بيضاء. هكذا فكر. ثم أردف قبل تبين أي صورة حاسمة لهذا الشخص:
* كيف حالك يا ابني؟ كيف تذكرتني بعد هذه السنين الطويلة؟ كان المفترض أن تكون نسيتني أو قدرت أني مت منذ زمن بعيد…
قاطعه المنادي مستلطفا:
* أطال الله عمرك. الحقيقة أنني لم أنسكم لحظة. لا ينبغي ذلك، نحن نظل أحبابا وإن باعدتنا الأيام…
* هذا حق… أنت شريف حقا. والآن أخبرني عن الوالد وكيف هو، آمل أنه لا يزال حيا… وأنت أيضا كيف حالك؟ لا بد أنك صرت رجل أعمال كبير تملك أسطولا وورشا كبيرة وحديثة… لا شك في ذلك. أليس كذلك؟
* الحقيقة أنني صرت أكبر من ذلك…
* أنت إذن أصبحت عسكريا ضابطا… كنت ألاحظ ميولك العسكرية أحيانا؟
* بل أكبر من ذلك…
* حقا؟ أنت مليونير إذن ولديك سيارات ومزارع وعشرات السائقين والعمال…؟
* أجل لدي ذلك، لكني أكبر من ذلك كله!
* آآ… لا بد أنك إذا صرت مديرا كبيرا أو وزيرا… هنيئا، يسرني ذلك؟
* بل أسمى من ذلك… لكن مهلا، هل يعني هذا الترتيب أنك ترى المدير أو حتى الوزير أعظم درجة من الضابط العسكري الكبير؟
* بالطبع، من الناحية السياسية يبدو لي ذلك. لا أعرف الكثير من هذه الأمور لكن الناس يعتقدون أن ما فوق الوزير إلا الرئيس؟
* حسنا، ليكن. ولما ذا لا تعتبرني رئيسا؟
رئيس… ههههه!. لا، أنا أتحدث بجدية يا ابني. قل لي هل أصبحت ضابطا؛ نقيبا أم عقيدا؟
* بل جنرالا، جنرالا يا والدي العزيز انجاي! إنها أعلى رتبة عسكرية ولم يصلها قبلي أي بيضاني ولا حتى كوري في هذا البلد… أنا أول جنرال في جمهورية ﮔـنار الإسلامية!
* حقا، هذا حظ سعيد الحمد لله ، أهنئك… مبروك، حيدره، حيدره…
* شكرا، لكن هذا ليس كل شيء… أنا صرت اكبر من ذلك…
* أكبر من ذلك؟! الم تخبرني أنها الرتبة القصوى. حقا أنا في حيرة؟!
* صحيح، ولكن تعلم أن الرئاسة فوق ذلك، أنا الآن يا عمي رئيس الدولة!
* لا تهزأ بي كثيرا… وتجعلني أشك في كل ما قلت لي آنفا…
* لا، لا تشك، أنا أصبحت رئيس دولة ﮔـنار كلها!
* بوي نار!!.. دع عنك هذا المزاح. لقد تذكرتك الآن؛ ما زلت طائشا، أنت كما كنت دوما: "صاي صاي"، لا تتغير..!
قال العجوز ذلك بنبرة أبوية عززها بضحكة ودية ليبدو مداعبا لا معاتبا. فأجابه المنادي بصوت واثق جاد:
* عفوك… أنت معلمي الأول وبمثابة والدي وأنا أكلمك بجد واحترام. ولكن هذه هي الحقيقة… أنا الآن رئيس الدولة، وقريبا رئيس الجمهورية. ألا تتابع الأخبار: التلفزيون والإذاعات؟ كنت أظنك على علم بالأمر… كيف لم يخبروك بهذا؟؟!
* لا علم عندي بأنباء ﮔـنار. سمعت أنهم أطاحوا بالرئيس مختار ولد داداه، ولكن ذلك كان منذ زمن بعيد… وكان الرئيس الذي يذكر هناك شخصا آخر، اسمه… اسمه؟ اسمه "طايع"، نعم تذكرت اسمه، كان شائعا أيام أحداث الفتنة التي فر فيها الناس من هنا وهناك. وكان ذلك سيئا، وقضى على مشروع كنت يومئذ على وشك تنفيذه بالهجرة إلى ﮔـنار وفتح ورشة هناك. لكن طايع طرد السنغاليين، وقيل إنه فعل أمورا شنيعة بالزنوج عموما جعلتني أصرف النظر عن المشروع وأصبر على الحال هنا… والحمد لله على كل حال. كل شيء يفعله المولى جيد وخير لنا جميعا.
كان رئيس الدولة يصغي إليه غير مصدق جهله بالأحداث لهذه الدرجة. فلا غرابة أنه لا يعلم بآخر انقلاب طالما أنه يجهل حقيقة الانقلابات الكثيرة السابقة. ثم رد على شكوى العجوز بعرض يقنعه بكل شيء:
* الآن يمكنك المجيء إلى بلدك الثاني، بإمكانك فتح ورشة كراج كبيرة وستكون موضع ترحيب وتفضيل في معاملة الحكومة والمؤسسات الكبرى هنا… ما عليك سوى عبور النهر.
فكر العجوز في أن الأمر حقيقي وأنها ستكون حينئذ فرصة مربحة… لكن كل هذا يبدو غريبا لا وجه لتصديقه. واهتدى بسرعة إلى حيلة تقطع الشك باليقين فرد على محاوره:
* شكرا ، شكرا… حيدره، حيدره. أنا الآن أخشى أن ينقطع الخط بسبب ضعف بطارية هاتفي. تعلَم؟ إنه من النوع القديم جدا، مثلي أنا طبعا!. ولكن أرجو أن تمنحني نصف ساعة فقط لأغير البطارية وأصلي، الآن يؤذنون. الأمر في غاية الأهمية عندي… إن كان لديك الوقت طبعا… سيدي الرئيس. نطق الجملة الأخيرة متأخرا بعض الشيء.
* لا مشكلة يا سيد انجاي.. سأصلي أنا أيضا، وسأتصل بك من جديد مهما كانت المشاغل. أنا أصيل لا أنسى الأحباب مهما علوت وسموت.
* شكرا، شكرا جزيلا سيدي الرئيس… حيدره، حيدره…
* إلى اللقاء لاحقا. شكرا، انجاي، انجاي…
(يتواصل)