تخطى الى المحتوى

الرماية التقليدية في موريتانيا... حين تُصوّب البنادق إلى قلب الدولة

جدول المحتويات

مع بداية العطلة الصيفية، تشهد بعض مناطق الداخل الموريتاني ما يُعرف بمواسم الرماية التقليدية، حيث تتسابق الفرق، ويُحتفى بالرماة، وتُرفع الأعلام القبلية في مشهدٍ يبدو من بعيد احتفاءً بالتراث، لكنه من قريب عرض سافر للهويات الضيقة، وتكريس للتخلف، وتفخيخ للوحدة الوطنية.

 

في هذه الفضاءات، لا يُحتفى بالمهارة بقدر ما يُحتفى بـ”الاسم”، ولا يُهم من أصاب الهدف، بقدر ما يُمجَّد من ينتمي لسلالة “عريقة” أو لقب “شريف”. ومع كل قارورة زجاج تتحطم، تنفجر في الخلفية هتافات فئوية، ونداءات تمجد السلالة، وانفعالات تعيدنا قرونًا إلى الوراء، حيث لا مكان للمواطنة، ولا حضور للدولة، ولا وزن للكفاءة.

 

ورغم أن ظاهر النشاط يُسوَّق كرياضة تقليدية، إلا أنه في عمقه يحمل أخطر أشكال التعبئة القَبَلية، ويُعيد إنتاج البنى الهوياتية التي تسعى الدولة الحديثة إلى تجاوزها. بل إن ما يُنفق في هذه التظاهرات – من أموال ونقل وسكن وإقامة وتنظيم – لو تم توجيهه لتنمية القرى أو دعم الشباب أو تعليم الأطفال، لكان أثره أبلغ وأبقى.

 

الأدهى من كل ذلك أن هذه التظاهرات تُجرى دون أي إشراف عسكري أو أمني حقيقي، رغم أنها تُستخدم فيها أسلحة نارية حقيقية. إذ يُسمح لمئات المواطنين بالتجول، والتصويب، والتدريب، خارج أي إطار نظامي. في بلدٍ تعاني مؤسساته الأمنية أصلاً من قلة الإمكانيات وانتشار السلاح في الأوساط المدنية.

 

فأين وزارة الداخلية؟ وأين وزارة الدفاع؟ وأين القانون؟

 

لماذا يُسمح لأفراد غير مؤهلين باستخدام السلاح خارج المعسكرات؟

 

وأيّ رسالة نوجهها حين نصور النشاط على أنه “فروسية وشهامة” بدل أن نضعه في إطاره المنضبط؟

 

بل كان حريًّا بالدولة أن تُخضع هذه الفرق لتدريب عسكري حقيقي، وتُشرف عليها من خلال وزارة الدفاع، وأن تُمنع من حمل السلاح خارج ميادين الرماية المنظمة، على أن تُسلَّم لهم الأسلحة خلال المسابقة فقط وتُسحب مباشرة بعد انتهائها، مع إدراج اللياقة البدنية والانضباط العسكري كجزء من شروط المشاركة.

 

وزارة الثقافة… راعية العصبية أم حامية للتراث؟

والمفارقة المؤلمة أن هذا النشاط يحظى برعاية وزارة الثقافة نفسها، التي من المفترض أن تكون حامية لقيم التنوع والتسامح، لا راعية لتظاهرات الهويات الضيقة. ففي هذا الموسم، لم تكتف الوزارة بتوزيع الجوائز، بل شارك وزير الثقافة شخصيًا في إطلاق النار وسط تصفيق الجماهير، في مشهد رمزي خطير:

 

هل أصبح الوزير طرفًا في “عرض قبلي” بدل أن يكون مسؤولاً عن توجيه الثقافة نحو الانفتاح والمواطنة؟

 

هل المطلوب من الدولة أن تُكرّس هذه الأنشطة أم أن تُقنّنها وتحصرها في أطرها الصحية؟

 

إن مشاركة الوزير في نشاط بهذه الحساسية لا تُعد مجرد لقطة بروتوكولية، بل تُفهم كـ”مباركة رسمية” لتكريس القبلية وإعادة إنتاج الشرائحية، تحت غطاء الرياضة والتراث.

 

ما العمل؟

إننا بحاجة إلى مراجعة جذرية لهذا النشاط، تبدأ من إعادة تعريفه كـ”نشاط عسكري تطوعي” لا كـ”رياضة تقليدية”، يُشرف عليه الجيش لا الفاعلون القبليون، ويُؤطره القانون لا العُرف، ويُخضع المشاركين فيه لتدريب وتأطير لا لتزكية لسلالاتهم.

 

فالتراث لا يعني أن نبقى رهائن له، والهوية لا تعني أن نُلغى في داخلها، والرماية لا ينبغي أن تكون ساحة للتباهي القبلي، بل ممكن أن تكون مدرسة للانضباط، وساحة للتطوع الوطني، إن نحن أردنا بناء وطنٍ لا قبيلة.

 

الرصاص لا يُعيد المجد… لكنه قادر على تفخيخ المستقبل إن وُضع في الأيدي الخطأ.

 

الأحدث