جدول المحتويات
كان مجرد شيخ مشرد، يبدو ـ وهو يقطع الشارع مسرعا ـ قد تجازو الستين من عمره، فقد استعمر الشيب كل خصلات الشعر المتكدسة فوق بعضها بغير نظام على رأسه ولحيته المتدلية صوب صدره العارى.
بالعكس من ذلك، كان مظهره السريالى موغل جدا فى الطفولة، فهو يتأبط لحافا باليا ومتسخا، ويمسك قطعة مستديرة من الخبز العربى الحافى باليد الأخرى، ينشب فيها أسنانه المرة تلو الأخرى كأن بينه وبينها ثأر تليد، أو كأنه يريد أن يسكت صوت أمعائه المنتفخة رياحا.
كطفل تائه، فى الرابعة من عمره، كان يذرع الشارع، وحيدا، وسط المدينة، مارا من أمام المكتبة، على مقربة من سور الجامعة، بين المحلات و المقاهى فى هذا الصباح القاسى البرودة.
طفولة تجازوت الستين من عمرها، فى عالم يكبر وتنتفخ بطون أغبيائه الأغنياء يوما بعد يوم، دون أن ينتبهوا إلى ضرورة وضع حد لهذه المهزلة اللا إنسانية الكبرى.
تجمدتُ فى مكانى للحظات وأنا أراقب هذا المشهد، ليس بسبب البرد والإزدحام فى الممر الذى كنت أقف وسطه، بل لأن مخيلتى لم تستطع للحظات تحليل المشهد الذى كان يدور على بعد أمتار قليلة منى، كأنه لقطة تسجيلية من فلم خيالى.
كيف لشيخ أن يبدو ـ للعين المجردة ـ بمظهر طفل صغير هكذا بباسطة، وبدون أية خدع سينمائية وبصرية، كيف؟!!
لا يساورنى شك البتة فى أن ذلك المشهد المذهل، كما رأيته، كان ليصبح من أفضل الصور التى تلتقطها عدسات المصورين الهواة، لو قدر لى أن قمت بذلك، خاصة فى زمن الصورة فيه بألف كلمة.
كانت لتكون صورة حقيقية للضياع متجسدا فى رجل من لحم و دم.
هل قلتُ كانت؟.. لا، إنها كذلك بالفعل!