جدول المحتويات
لم يعد إدمان المنصات الاجتماعية مجرد ظاهرة عابرة، بل أصبح واقعًا يطبع حياة أغلب الناس؛ إذ تحول الهاتف الذكي إلى الصديق الدائم والجليس الذي لا يفارق اليد، يُستقبل من خلاله كل جديد ويُبث عبره ما يدور في الخواطر. غير أن هذا العالم الافتراضي، الذي بدا في بداياته مساحة للتواصل وتبادل المعرفة، تحول اليوم إلى مصنع للمشاهير، أكثرهم من فئة “المحتوى التافه”، حيث يتابعهم الآلاف، إن لم نقل الملايين.
المؤسف أن الكثير من جمهور هذه المنصات بات ينجذب وراء الغث بدل السمين، ويُقبل على التسلية والفضول أكثر من طلب الفائدة والمعرفة. فبينما يُهمل الناس صفحات العلماء والمفكرين وأصحاب الكلمة الهادفة، تتضخم أرقام المتابعين عند المهرجين والباحثين عن الشهرة السريعة، حتى غدت حساباتهم تُدار كما تُدار الشركات، وتُستغل في الإعلانات التجارية، فيما يغيب البعد التوعوي والتثقيفي عن المشهد.
ولعل هذا المشهد لا يقتصر على دول بعينها؛ ففي موريتانيا ـ على سبيل المثال ـ نرى كيف تحوّل بعض الوجوه التي لا تملك رصيدًا معرفيًا أو فكريًا يُذكر إلى “مؤثرين” يحظون بعشرات الآلاف من المتابعين، وتتهافت عليهم الشركات للترويج لمنتجاتها، في حين يعاني الأكاديميون وكتّاب الرأي من ضعف التفاعل مع ما يقدمونه، رغم ما يحملونه من علم وفكر وتجربة. إنها مفارقة موجعة تختزل حال المجتمع الذي بات يميل إلى الترفيه اللحظي أكثر من ميله إلى ما ينفع ويرتقي بالوعي.
وإذا كان هؤلاء “المشاهير” يحققون عوائد مالية كبيرة من خلال الإعلانات والمحتوى السطحي، فإنهم في المقابل يدفعون أثمانًا نفسية واجتماعية باهظة؛ من توتر وقلق وتعرض للتنمر وانتهاك للخصوصية. ومع ذلك تبقى شهرتهم – عند كثيرين – حلمًا يُغري الشباب، باعتبارها طريقًا سهلاً للمال والمكانة.
إن صناعة “المؤثر” في العصر الرقمي ليست أمرًا بسيطًا كما يتصور البعض، فهي تقوم على خوارزميات دقيقة تحكمها الشركات الكبرى، تحدد ما يظهر للناس وما يُدفع به إلى الواجهة.
لذلك لا مكان حقيقي لمن لا يجمع بين الموهبة، والقدرة على مخاطبة الجمهور، والمصداقية، وجودة الطرح. ومع ذلك تبقى مسؤولية الجمهور أساسية في تحديد ما يستحق أن يُتَابع وما ينبغي أن يُهمَل، لأن قوة المؤثر في نهاية المطاف إنما تُستمد من جمهور يمنحه المتابعة والانتشار.
فهل نستطيع في موريتانيا أن نكسر هذه القاعدة، فنوجّه اهتمامنا نحو من يقدم محتوى يرفع منسوب الوعي والمعرفة؟ أم أننا سنظل – مثل غيرنا – نمنح التافهين المزيد من الضوء، ونطوي صفحات الفكر والقيمة في زوايا النسيان؟