جدول المحتويات
(2)
أفضت حالة الإهمال هذه – بالتراكم – إلى ضبابية في الرؤية، وسطحية في الوعي، وغياب للذاكرة الجمعية الناقدة، فشاع تجاه المواقف العامة ما يشبه "الإرجاء النقدي" باعتبار أن خلفياتها لم تتكشف بعد، أو لأن "ما جاز على المثل يجوز على مماثله" ومن ثم فلا سبيل إلى التعمق في المحاسبة. دعك من تعليقات آنية في تدوينة أو مقال لا يلبث أثرهما أن يزول، ويعود الموقف "الغريب" إلى حالة طبيعية في سلسلة من المواقف "المشابهة"!
(3)
وغالب الظن أن هذا الأمر راجع إلى أن من يمارسُون النقد إلى الآن في واقعنا أغلبهم سياسيون، وللسياسيين حساباتهم المعروفة، في حين أن صاحب هذا الدور أصالة هو المثقف، والمبدع الحر، فالمثقفون والمبدعون هم من يملك القدرة على إعطاء الأحداث عمقها الحقيقي بلا مواربة، ويكشفون لعموم الناس جوانبها الغائمة، في أعمال أدبية وفنية شائقة، تدفع ذاكرة الأحداث إلى التمدد، وتخلد المواقف والوقائع في أذهان الجماهير، بطريقة معيارية عظيمة التأثير!
(4)
ولأن المجتمع لا يمتلك تلك الذاكرة فلا جرم أن يخدعه الكثيرون – ويظلم آخرين – ممن يتخذونه مطية ذلولا وسلَّما واصلا إلى مطامحهم الشخصية فيجارون التيار حينا، (ويقودونه في بعض الأحيان) يشعلون الحماس في نفوس الجماهير، ويخلعون على الهدف المشترك ألوانَ المُثُل الزاهية، فإذا ما زها قطاف الغاية "المنشودة" رَكل أحدهم بغلته صوب الهدف "الحق" وأنشد:
عدسْ ما لعبَّاد عليكِ إمارةٌ *** أمِنْتِ وهذا تحملينَ طليقُ
ثم لا يجد في نفسه حرجا مما أصابَ، إذ يأتيك من الغد بغير الوجه الذي تعرف وبغير اللسان الذي تعرف وبغير الاهتمام الذي تعرف. يفعل ذالك السياسيون القبليون، والقادة الإيديولوجيون، وأصحاب المظالم التاريخية، "ومن تبعهم بإحسان" من المنتسبين للثقافة، والقادة الجُدُد!
(5)
كل ذلك جعل حياتنا السياسية وما يرتبط بها تبدو رحلة عبثية مستديمة في كثير من الأحيان ووجها قاتما من وجوه التكسب على حساب الأفكار والمواقف والقيم. الأمر الذي أضعف تلك القيم والأفكار والمواقف ذاتها في نفوس الكثيرين، وكرَّس النظرة السلبية للسياسة -والاهتمام بالشأن العام – باعتبارها نوعا من الخديعة والتلون والبحث عن المصلحة الشخصية الضيقة.
(6)
وغدا هذا السلوك اتجاها اجتماعيا يحتاج تغييره إلى وقت وجهد، غير أن التصدي له يجب أن لا يتأخر. وليس معنى ذلك أنه لم تحصل محاولات تصد له من قبل، ولكن معناه ضرورة انخراط كل المؤمنين بهذا التصدي في عمل مشترك عاجل من أجل صناعة ثقافة اجتماعية تنظر بازدراء للمتلونين من أصحاب المواقف والأفكار؛ فإن الوازع الاجتماعي ذو أثر بالغ في توجيه الأفراد وكبح جماح المواقف السالبة، لنبني معا تلك الذاكرة النقدية المعيارية الغائبة.. حتى تحاكم النظام إلى شعاراته، والسياسيين إلى مواقفهم والمثقفين إلى أطروحاتهم والمناضلين إلى قناعاتهم السابقة. وليس مقبولا أن يكون الجواب المسكت لكل من يمارس النقد والتصحيح: "ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي" – بعيدا عن السياق الأصلي للجملة – فلمَ انشغلنا بالحديث عن المستقبل إذن؟!
دمتم في رعاية الله.
نقلا عن صحيفة "الأخبار إنفو"