تخطى الى المحتوى

ورقة تأطيرية حول: فقه رؤية الأهلة

جدول المحتويات

 

 

1.فقه الرؤية:

2.واقع الرؤية:

3.نحو فقه جديد للرؤية:

 

أولا: فقه الرؤية:

بما أن المذهب الذي لا يزال سائدا في القطر الموريتاني هو المذهب المالكي، فإن فقه الرؤية الجاري به العمل هو تلك الأحكام الواردة في أمهات المذهب، وقد لخصها الشيخ خليل في قوله: "يثبت رمضان بكمال شعبان أو برؤية عدلين ولو بصحو بمصر فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا أو مستفيضة وعم إن نقل بهما عنهما لا بمنفرد إلا كأهله ومن لا اعتناء لهم بأمره وعلى عدل أو مرجو: رفع رؤيته والمختار وغيرهما وإن أفطروا فالقضاء والكفارة إلا بتأويل: فتأويلان لا بمنجم ولا يفطر منفرد بشوال ولو أمن الظهور إلا بمبيح وفي تلفيق شاهد أوله لآخر آخره ولزومه بحكم المخالف بشاهد: تردد." وتتناول كتب الشروح في هذا الباب مسألتين أساسيتين: أولاهما اعتماد الرؤية البصرية، والثانية عدم اعتماد الحساب الفلكي.

 

المسألة الأولى:.اعتماد الرؤية البصرية:

 لكي يثبت هلال شهر رمضان وشوال لا بد من رؤيته بالعين من عدلين أو برؤيةٍ مستفيضةٍ:

(1) بشهادة عدلين أنهما رأيا الهلال: جاء في المدونة:

"قلت: أرأيت استهلال رمضان، هل تجوز فيه شهادة رجل واحد في قول مالك؟

قال: قال مالك: لا تجوز فيه شهادة رجل واحد وإن كان عدلا.

قلت: فشهادة رجلين؟

قال: هي جائزة في قول مالك.

قلت: أرأيت هلال شوال؟

قال: كذلك أيضا لا تجوز فيه أقل من شهادة رجلين، وتجوز شهادة الشاهدين إذا كانا عدلين".

والعدل من يجتنب الكبائرا* ويتقي في الأغلب الصغائرا

وما أبيح وهو في العيان* يقدح في مروءة الإنسان.

 

وإذا انفردا برؤيته في مصر كبير وليلة صحو، ولم ير بعد ذلك بثلاثين ليلة في جو لا غيم فيه، تحولا إلى شاهدي سوء، وعمل بخلاف شهادتهما، لأن واقع المشاهدة كذبها. والعبرة بالرؤية البصرية منهما، ولم أجد فيما اطلعت عليه من كتب المذهب من تعرض لرؤية العدلين للهلال بالآلات والمناظير.

 

 (2) رؤية مستفيضة: ويعبر عنها بالخبر المستفيض، وهو الخبر المحصل للعلم أو الظن القريب منه، وهو عند بعضهم خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عن حصول رؤية الهلال، وهي بهذا الحد تفيد التواتر، وهي عند الأصوليين ما زاد نقلته على الثلاثة، ومضمونها أن الهلال إذا فشا خبر رؤيته فشوا لا يحتاج إلى شهادة ولا تعديل ثبتت رؤيته بالخبر لا بالشهادة.

 

وقد حرر الفقيه المحقق سيدي محمد ولد عبد الرزاق هذه المسألة في رسالته المعنونة "تنبيهات الفقهاء المفتين على معنى الاستفاضة عند الأقدمين" بالقول:"إن المنظور إليه من المستفيضة والمعلق عليه قبولها باتفاق هو ما يقع في قلوب المخبريـن بالفتح من العلم الاضطراري بالفعل لا غير في تفسير القدماء ومن تبعهم، أو ما يقع من الظن القريب منه عند ابن عبد السلام ومن تبعه ليس غير… وعلى المفتي أن يتنبه إلى أن المستفيضة إن لم تفد العلم الضروري أو الظن القريب منه لم تعتبر، ولو كثر العدد عند أحد من الفقهاء لأن المعلق عليه قبولها وردها ما يقع في القلب منها فلم يعلقوا قبولها على المظنة فيكون العدد الذي مظنته حصول أحدهما معتبر، ولا علقوه على عدد محصور إن بلغته اعتبرت، ولا على أوصاف  في المخبرين إن توافرت قبلوا إن لم تعارضها بينة كما في الشهادة العرفية، بل المعلق عليه قبولها إنما هو حصول العلم الضروري أو الظن القريب منه، وإن لم يقعا أو أحدهما، فلا قائل بقبولها".

 

وإذا ثبتت الاستفاضة في الرؤية والعدالة في من دونها من الجازمين بالرؤية عمت الرؤية على الجميع.

(2) المسألة الثانية: عدم الاعتماد على قول المنجم:

تعرض الفقهاء المالكية لهذه المسألة عند قول خليل بقوله "لا بمنجم" وعرفوه بأنه هو الذي يحسب قوس الهلال هل يظهر في تلك الليلة أو لا، ولا يثبت الهلال ولو وقع في القلب صدقه لأننا مأمورون بتكذيبه؛ ولأنه ليس من الطرق الشرعية حسب قول الدسوقي، ونقل الحطاب أن "المشهور في المذهب عدم اعتبار الحساب، قال سند: إن كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به لم يتبع لإجماع السلف على خلافه، مع أن حساب الأهلة والخسوف والكسوف قطعي، فإن الله سبحانه أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة على نظام واحد طول الدهر، وكذلك الفصول الأربعة، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، كما إذا رأينا شيخا نجزم بأنه لم يولد كذلك، بل طفلا للعادة. وإلا فالعقل يجوز ولادته كذلك. فالقطع الحاصل فيه إنما هو لأجل العادة، وإذا حصل القطع بالحساب فينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات. والفرق هاهنا وهو عمدة الخلف والسلف أن الله تبارك وتعالى نصب زوال الشمس سببا لوجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات، فمن علم شيئا بأي طريق لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد القطع، وأما الأهلة فلم ينصب خروجها من شعاع الشمس سببا للصوم، بل نصب رؤية الهلال خارجا عن شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي ولا يثبت الحكم، ويدل لذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته» ولم يقل: لخروجه عن شعاع الشمس، وقال في الصلاة: "أقم الصلاة لدلوك الشمس"  أي ميلها، والظاهر أنه لا يلتفت في المذهب إلى قول المنجم باستحالة الرؤية إذا شهد عدلان بها. وقال السبكي وغيره من الشافعية: إنه لا تقبل الشهادة؛ لأن الحساب أمر قطعي والشهادة ظنية، والظن لا يعارض القطع. ونازع في ذلك بعض الشافعية.

 

ويكره عندهم الاشتغال بما يؤدي إلى معرفة ناقص الشهور وكاملها لأنه من الاشتغال بما لا يعني، إذ لا يجوز لأحد أن يعول في صومه وفطره على ذلك، فيستغني عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء، وقد تعرض القرافي لهذه المسألة في الفرق الثاني بعد المائة بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب) فذكر أن الله تعالى نصب زوال الشمس سببا لوجوب الظهر وبقية الأوقات سببا لوجوب بقية الصلوات …. فمن علم السبب بأي طريق كان لزمه حكمه فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأما الأهلة فقال الفقهاء رحمهم الله تعالى حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة وإن كان قطعيا منضبطا بسبب أن الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة السيارة ..إلا أنه لا يعتمد بسبب أن صاحب الشرع لم ينصب خروج الأهلة من الشعاع سببا للصوم كما نصب أوقات الصلوات سببا لوجوبها نصب رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس أو إكمال العدة ثلاثين ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع فقد قال – صلى الله عليه وسلم – «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس كما قال تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس" ثم قال – صلى الله عليه وسلم – فإن غم عليكم أي خفيت عليكم رؤيته فاقدروا له وفي رواية «فأكملوا العدة ثلاثين»…. وبالجملة فصاحب الشرع نصب تحقيق أوقات الصلوات سببا لوجوبها بحيث لا يكون الحس دالا على عدم دخول الوقت …. ونصب رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس أو إكمال العدة ثلاثين سببا لوجوب صوم رمضان، ولم ينصب تحقيق الخروج بدون رؤيته كما في أوقات الصلوات سببا لذلك فاشترط في سببية أوقات الصلوات التحقيق دون الرؤية وفي سببية الهلال الرؤية دون مجرد التحقيق".

 

وإذا كانت تلك هي أهم القواعد المعتمدة في المذهب للثبوت هلال شهر رمضان وشوال، فكيف انعكست على الواقع العملي في هذه البلاد؟

 

 ثانيا: واقع الرؤية

ترك ولي الأمر مسألة تحديد ثبوت الرؤية وفقا للأحكام السالفة للجنة مكلفة بمراقبة الأهلة، وتتصدي هذه اللجنة لتلك المهمة من خلال التحري عن الأهلة على كافة التراب الوطني بالتعاون مع السلطات المحلية، وبالنظر في حصيلة عملها ومقارنتها مع ما تفيد به المصادر الفلكية يتبين من الناحية العلمية أن أليات عمل اللجنة لم تكن تضمن لها دائما التطابق مع واقع الأهلة في بقية العالم الإسلامي، ولا مع الإمكان الواقع، ويتضح ذلك من خلال الجدول التالي، والفرضيات المعروضة لتفسيره.

 

1.عرض الجدول:

 

هل الحيثيات تؤيد اليوم الذي بدأ به الشهر؟

مكث القمر في الأفق، دقيقة

وقت غروب القمر

وقت غروب الشمس

يوم ولادة الهلال

وقت ولادة الهلال

التاريخ الميلادي

التاريخ الهجري

الشهر

نعم

55

20:38

19:43

27-06-2014

08:09

29-06-2014

1435

رمضان

لا

20

20:00

19:40

26-07-2014

22:42

28-07-2014

1435

شوال

نعم

51

20:35

19:44

08-07-2013

07:14

10-07-2013

1434

رمضان

لا

19

19:54

19:35

06-08-2013

21:51

08-08-2013

1434

شوال

نعم

57

20:39

19:42

19-07-2012

04:24

21-07-2012

1433

رمضان

نعم

31

19:59

19:28

17-08-2012

15:54

19-08-2012

1433

شوال

نعم

34

20:13

19:39

30-07-2011

18:40

01-08-2011

1432

رمضان

لا

-5

19:34

19:39

29-08-2011

03:04

30-08-2011

1432

شوال

نعم

65

20:38

19:33

10-8-2010

03:08

12-08-2010

1431

رمضان

نعم

45

19:56

19:11

08-09-2010

10:30

10-09-2010

1431

شوال

لا

6

19:33

19:27

20-08-2009

10:01

21-08-2009

1430

رمضان

لا

25

19:28

19:03

18-09-2009

18:44

20-09-2009

1430

شوال

نعم

64

20:22

19:18

30-08-2008

19:58

02-09-2008

1429

رمضان

نعم

39

19:32

18:53

29-09-2008

08:12

01-10-2008

1429

شوال

لا

-28

18:18

18:46

11-10-2007

05:01

11-10-2007

1428

شوال

لا

8

18:45

18:37

22-10-2006

05:14

23-10-2006

1427

شوال

نعم

110

20:31

18:41

02-11-2005

01:25

05-11-2005

1426

شوال

نعم

52

19:19

18:27

12-11-2004

14:27

14-11-2004

1425

شوال

نعم

39

19:05

18:26

23-11-2003

22:59

25-11-2003

1424

شوال

لا

20

18:47

18:27

04-12-2002

07:34

05-12-2002

1423

شوال

نعم

35

19:14

18:31

14-12-2001

20:48

16-12-2001

1422

شوال

نعم

40

19:06

18:26

25-11-2000

23:11

27-11-2000

1421

رمضان

نعم

50

19:26

18:36

25-12-2000

17:22

27-12-2000

1421

شوال

لا

-6

18:26

18:32

18-12-1998

22:42

19-12-1998

1419

رمضان

لا

4

18:53

18:49

17-01-1999

15:46

18-01-1999

1419

شوال

لا

5

18:43

18:38

29-12-1997

16:57

30-12-1997

1418

رمضان

نعم

29

19:25

18:56

28-01-1998

06:01

29-01-1998

1418

شوال

لا

-26

18:18

18:44

09-01-1997

04:26

09-01-1997

1417

رمضان

لا

6

19:07

19:01

07-02-1997

15:06

08-02-1997

1417

شوال

لا

14

19:05

18:51

20-01-1996

12:50

21-01-1996

1416

رمضان

لا

-16

18:50

19:06

18-02-1996

23:30

19-02-1996

1416

شوال

لا

11

19:21

19:10

01-03-1995

11:48

02-03-1995

1415

شوال

لا

5

19:08

19:03

10-02-1994

14:30

11-02-1994

1414

رمضان

لا

-30

18:43

19:13

12-03-1994

07:05

12-03-1994

1414

شوال

لا

7

19:14

19:07

21-02-1993

13:05

22-02-1993

1413

رمضان

لا

-29

18:46

19:15

23-03-1993

07:14

23-03-1993

1413

شوال

نعم

55

20:06

19:11

04-03-1992

13:22

06-03-1992

1412

رمضان

نعم

80

20:38

19:18

03-04-1992

05:02

05-04-1992

1412

شوال

لا

-35

18:39

19:14

16-03-1991

08:11

16-03-1991

1411

رمضان

لا

-6

19:14

19:20

14-04-1991

19:38

15-04-1991

1411

شوال

لا

-7

19:09

19:16

26-03-1990

19:46

27-03-1990

1410

رمضان

نعم

37

20:00

19:23

25-04-1990

04:27

26-04-1990

1410

شوال

 

 

2. قراءة في الجدول:

يبين الجدول نتائج دراسة للرؤية الرسمية في موريتانيا لهلال رمضان وشوال من سنة 1990 إلى سنة 2014، وهي فترة تقارب ربع القرن، وهو يقارن الرؤية المعلنة بالرؤية الممكنة وفقا لمعطيات التقنية المعاصرة اليقينية، وتكشف المقارنة عن اختلال كبير بين الواقع والمعلن، إذ لا تتجاوز نسبة المطابقة بين الرؤيتين نسبة 45.24 في المائة، في حين وصلت نسبة الاختلال 54.76.

 

ويعني ذلك أن نصف الشهادات التي اعتمدتها لجنة الأهلة في الرؤية كانت كاذبة على وجه اليقين، لأنها تدعى رؤية معدوم أو المستحيل، ويدعو ذلك إلى الحيرة والتساؤل عن الأسباب الكامنة وراءه، ويمكن في هذا الصدد الحديث عن ثلاث فرضيات:

 

الأولى: أن ذلك راجع إلى عدم دقة اللجنة المكلفة بمراقبة الأهلة في التحري واستطلاع الرؤية.

 

الثانية: أن الشهود كانوا يكذبون على اللجنة، ويدعون رؤية ما لم يروا، فتحكم اللجنة مستندة على أقوالهم.

 

الثالثة: أن الشهود كانوا يخبرون عن رؤية متوهمة في أذهانهم وأخيلتهم، فيصدقونها، ثم يشهدون بها أمام اللجنة، ثم تصدقهم فتحكم بثبوت الرؤية المتوهمة.

 

من المستبعد اعتماد الفرضية الأولى، لأن اللجنة جماعة من عدول الأمة وقضاتها وأئمتها، وهم من أهل الأمانة والثقة والنزاهة، ولا يتصور في حقهم التلاعب بمسؤولياتهم وأماناتهم. أما الثانية فهي وإن كانت محتملة لأن الأصل انعدام صفة العدالة التي بدأت تنقرض ليصبح المعتبر في باب الشهادات هو الأمثلية، فإنها لا يمكن الركون إليها، لأن اللجنة تعمل على غربلة الإخبارات والتثبت من عدالة أصحابها أو من أمثليتهم.

 

أما الفرضية الأخيرة فهي أرجح من سابقتيها، ذلك أن مجازفة الشهود بسمعتهم، وحرصهم على القيام بشهادتهم، وحسن نيتهم، وتعلقهم بالشعائر يدل على صدق قولهم في ذاته من حيث اعتقادهم للرؤية، لكن عدم خبرتهم في التحري، وشدة تعلقهم بالرؤية ورغبتهم في الخير ربما أدى بهم إلى توهم الرؤية، فيصدقون الصورة المعروضة في مخيلتهم، ويرفعون الأمر إلى القاضي، ومما يفسر ذلك ندرة ورود الرؤية من الحواضر الكبرى، وكثرة رفعها من أهل البادية والقرى حيث يسهل التعديل للاعتبارات الاجتماعية، وتنزل المستويات المعرفية والثقافية.

 

ولذلك يجدر الاستئناس بما استحدث في هذا العصر من وسائل للرؤية والسماع من أجل ترشيد الرؤية، ونشر ثقافة التحري تفاديا للوقوع في الخطأ والإهمال ضمن رؤية جديدة لفقه الرؤية.  

 

ثالثا: نحو فقه الرؤية

إذا كانت الرؤية محل جدل من قبل العامة والخاصة في البلد، فهل بات من اللازم مراجعة الأسس التي تقوم عليها من أجل النظر في فقه جديد يراعى التطورات الحاصلة في وسائل نقل الأخبار، ووسائل الإبصار؟

 

1.فقه الرؤية في ضوء ظل تطور وسائل الإخبار:

لا يخفى ما أصبحت عليه وسائل الاتصال من تطور يسهل انتقال الأخبار بين الناس، ويطرح ذلك على فقه الرؤية عدة إشكالات من عدة أوجه:

 

ففي باب الشهادة من المعروف أن وسائل الإخبار تؤدي إلى سهولة نقل الشهادات والرؤى والتثبت من أحوال أصحابها من جهة العدالة والاستفاضة، لأن البشرية أصبحت تشترك في اللحظة الخبرية، وإذا كان هذا التطور يمنح فرصة لضبط مسألة الرؤية في وقت أقل ودون كبير عناء، فإنه يدعو إلى إعادة النظر في الاعتماد على رؤية عدلين اثنين فقط، وإعادة النظر في تحديد مفهوم الاستفاضة، فلو ثبت أن عدلين من عدول قرية من القرى في هذا العالم الواسع رأيا الهلال، ونقلت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء أن الآلاف من أهل القرى المجاورة لتلك القرية والمشاركة لها في الطقس والموقع لم يروه، فإن ذلك يضعف من إمكانية الاعتماد على هذه الشهادة،  ويدعو الحاكم (اللجنة المكلفة بمراقبة الأهلة) إلى التحري، والمستجد في هذه الحالة أن الحكم كان يرتبط باعتماد رؤية العدلين في انقطاع عن أخبار بقية المعمورة، أما اليوم فقد أصبحت الشهادة تطرح على محك ما ينقل من جميع أرجاء العالم من أخبار بشأن الرؤية إثباتا ونفيا. وفي المذهب قول ينسب إلى سحنون، وإليه أشار صاحب المختصر بالقول "ولو صحوا بمصر." يقضي بأن رؤية عدلين للهلال في جو صحو بمصر كبيرة لا تعتمد في إثبات الهلال، ويقصد بالمصر الكبيرة ما احتوى على قاض وحوانيت. والعالم اليوم يكاد يكون قرية واحدة بحكم ارتباط مناكبه بوسائل التواصل، ولذلك فمن الوجيه أن يؤخذ في الاعتبار هذا القول الذي له وزنه داخل المذهب عند انفراد عدلين بالرؤية في قرية  من بين العديد من القرى التي تشاركها في المطالع الفلكية والأحوال الجوية.

 

أما في باب استفاضة الرؤية، فإن التطور الحاصل في وسائل الإخبار يؤثر في توصيفها، فلا شك أن سرعة انتشار الخبر عامل من عوامل استفاضة الرؤية، غير أن مناط اعتماد الرؤية المستفيضة هو استحالة التواطؤ على الكذب، وتحصيل العلم الضروري أو ما يقاربه. وتطور وسائل الاتصال والإخبار وانتشارها بين الناس في شكل شبكات وصناعة الشائعات لأغراض خاصة وعدم التحري في نقل الأخبار بين تلك الوسائل، كل ذلك من شأنه أن يسهل التواطؤ بينهم، ويقتضي ذلك بالضرورة  إعادة النظر في شروط تحقق صفة الاستفاضة في الرؤية. وفي ذلك يقول الشيخ سيد محمد بن عبد الرزاق في تنبيهاته "وعلى المفتي اليوم أن يتنبه إلى ما حدث اليوم ولم يكن في زمن العلماء المدونين للأحكام..ذلك أن يومنا يأتي فيه الخبر بالواقع من الرؤية وعدمها في أول الليلة المترقبة فيها الرؤية من دولة متحادة وولاياتها وأمصارها، وربما يؤثر ذلك في صدق المستفيضة فيقع منها العلم أو الظن القريب منه، وربما يؤثر في ضد ذلك فلا يقع واحد منهما إلا بالعدد الكثير…. أما مثل ما نعتبره اليوم مستفيضة فلا يفيد في المطلوب والمشترط في المستفيضة إلا إن احتف بقرائن تقويه أو سلم من ضدها." وفي ذلك دعوة لمراجعة أحكام الرؤية المستفيضة في ظل ما احتف بها من تطور في وسائل الإخبار.

 

2.فقه الرؤية في ضوء تطور وسائل الإبصار:

 يجمع الفقهاء أن سبب وجوب الصوم عند انعدام الغيم هو الرؤية، ولا يختلفون في أن العبرة بالرؤية البصرية الفعلية لا الرؤية المحتملة، ولا يتعرضون لنوعية الرؤية من حيث كونها مباشرة أم غير مباشرة، ولذلك لا ترد شهادة الرائي إذا كان من أصحاب النظارات التي عمت بها البلوى في هذه العصر خاصة في وسط من لهم اعتناء بالأهلة. ولا شك أن تكنولوجيات البصريات تطورت بشكل مذهل يمكن استيعابه ضمن فقه الرؤية، وذلك من جهتين: جهة الإثبات، وجهة النفي.

 

فمن جهة الإثبات، فقد تأكد بالتجربة أن العالم الإسلامي يجتمع في جزء من الليل بحيث يكفي رؤية الهلال في جزء منه لتعم في بقية أجزائه على القول بعمومية الرؤية، وأنه كلما غربنا ازدادت فرص الرؤية، وبما أن هذا البلد يقع في أقصى مغرب الشمس، فإن رؤية الهلال فيه أيسر من غيره، ولذلك فلا بأس من بناء مراصد لمراقبة الأهلة تحت رعاية إحدى هيئات منظمة التعاون الإسلامي، أو من قبل الأجهزة الحكومية، وستمكن هذه المراصد من رؤية الهلال في أسوأ الأجواء وعلى سبيل القطع.

 

ولا وجه هنا للاعتراض بأن الأصل هو عدم الاعتداد بالحساب الفلكي، لأن الرؤية بالمنظار تختلف عن الحساب الفلكي في ثلاثة أوجه:

 

1. أن الحاسب الفلكي لا يرصد الهلال ولا يراقبه، بل يحسب مسار القمر والشمس، ويرتب على ذلك نقصان الشهر أو كماله، وهو يعرف نتيجة حسابه قبل لحظة الغروب، أما الراصد بالمنظار فهو يستعين بتكنولوجيات الإبصار على تحصيل الرؤية التي وضعت سببا لوجوب الصوم، وهو لا يعلم النتيجة على سبيل اليقين قبل توجيه منظاره بعد غروب الشمس.

2. أن الاشتغال بالحساب الفلكي في صورته القديمة كان مذموما عند الفقهاء، أما النظر بالمنظار ليلة التحري فيدخل في عموم قوله تعالى "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض".

3. أن الحساب الفلكي لا يتاح إلا لأصحاب هذه الصناعات، أما المراقبة بالمنظار فهي متاحة لكل إنسان، ولو كان أميا.

 

ولا يعترض على هذا بالقول إن الشريعة أمية، لأن المقصود بذلك حسب الشاطبي هو جريانها على معهود أهلها المخاطبين بها، وبما أن الخطاب العلمي والتكنولوجي هو السائد في هذا العصر، فلا مانع شرعي من اعتماد هذه المخترعات البصرية لإثبات الرؤية.

 

أما من جهة النفي، فإن اعتماد الرؤية بالمنظار يسد باب التواطؤ على استفاضة الرؤية، ويحد من ادعاء الرؤية البصرية، فإذا استحالت الرؤية بالمنظار والمراصد، وتأكدت اللجنة من ذلك، فمن المستبعد بعد ذلك أن نركن إلى شهادة الأفراد في إثباتها، لأن الشهادة ترد بالاستبعاد. أما الاستفاضة فلا وجه لقيامها في هذه الحالة، لأنها لا تكون كذلك إلا أفادت العلم أو اليقين، وهي تخالف في هذه الحالة ما هو أقوى منها من حيث اليقينية.

 

ولعل من الحكمة وحسن التدبير الموازنة في اعتماد التطور الحاصل في مجال السمعيات والبصريات على وجه يضمن التحري في القول بإثبات الأهلة حتى يطمئن الناس على شعائرهم، ولعل سبب ما يحصل أحيانا من جدل بشأن الرؤية بين العامة والخاصة إنما يعود إلى الإفراط في الاعتماد على السمعيات من جهة الإثبات فقط، والإعراض عن البصريات من جهة النفي والإثبات معا. وخير الأمور أوسطها.

 

والله تعالى أعلم.

 

صالون الولي ولد محمودن الأدبي والثقافي

 

الأحدث