تخطى الى المحتوى

جدول المحتويات

 

الموصلي: الموسيقار الثقة

لعل في ترجمة الذهبي وغيره للمغني والموسيقار إسحاق بن إبراهيم المعروف بالموصلي ما يشهد بأن التمهر في الغناء وممارسته لم يكن خارما للمروءة ولا خادشا للثقة ما التزم صاحبه أحكام الشرع وآدابه.

 

فقد كان إسحاق بن إبراهيم أشهر وأمهر الموسيقيين في العصر العباسي، ولكن ذلك لم يمنع الذهبي من أن يقول فيه: "كان إليه المنتهى في معرفة الموسيقى، وله أدب وافر وشعر رائق، وكان عالما بالأخبار وأيام الناس، وغير ذلك من الفقه والحديث واللغة وفنون العلم، قال إبراهيم الحربي: كان ثقة عالما، وكان ابن الأعرابي يصفه بالصدق والعلم والحفظ"، وقال المأمون: "لولا اشتهار إسحاق بالغناء لَوَلّيتُه القضاء، لما أعلم من عفّته ونزاهته وأمانته".

 

وهي مسألة كانت حاصلة في هذه الأرض، فقد كانت تدنيت أحمد بن بوب جدو رحمه الله مدخله إلى قلوب علماء وأفاضل منطقته، ولم تكن يوما سبَّة له، فقد كان ثقة مشهورا بالصدقة والعطف وحسن الخلق، وقد روي أن أحد أفاضل علماء أسرة أهل العاقل كان يقول إن المختار بن الميداح رحمه الله معدود في الفقهاء مع اشتهاره بالغناء.

 

آل الماجشون: العلم والغناء

وليس هذا وحده فقد كان من رجال الصحيح وثقات العلماء والمحدثين عازفو آلات، ومولعون بالغناء، ولعل في آل الماجشون مثالا لا ينكر، وآل الماجشون أسرة مدنية اشتهرت بالفقه والثقة والغناء، ومنهم:

 

ـ المحدث يعقوب بن أبي سلمة الماجشون القرشي التيمي، روى عن جمع من الصحابة، وروى عنه جلة من التابعين، وهو أحد رجال صحيح مسلم، ذكره ابن حبان في الثقات، روى صاحب تهذيب الكمال في أسماء الرجال عن مصعب قوله فيه: "كان يعلم الغناء ويتخذ القيان ظاهرا من أمره في ذلك"، وروى المزي أنه كان من جلساء عمر بن عبد العزيز وأن عمرا كان يأنس به، ورتبته عند ابن حجر: صدوق.

 

2 ـ المحدث يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، من رجال البخاري، وهو أحد نبلاء الذهبي الذين ترجم لهم في السير، وسماه الإمام المحدث، قال الذهبي: "يوسف بن يعقوب ابن أبي سلمة الماجشون، الإِمَامُ المُحَدِّثُ المُعَمَّرُ أَبُو سَلَمَةَ التَّيْمِيُّ المُنْكَدِرِيُّ مولاهم المدني، حَدَّثَ عَنْ: أَبِيْهِ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ، وَصَالِحِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ العَوْفِيِّ وَطَائِفَةٍ (…) وثقه يحيى بن معين" ويروي الذهبي في ترجمته عن ابن معين، قال: "قَالَ ابْنُ مَعِيْنٍ: كُنَّا نَأتِي يُوْسُفَ بنَ المَاجَشُوْنِ يُحَدِّثُنَا، وَجَوَارِيْهِ فِي بَيْتٍ آخرَ يَضرِبْنَ بِالمعزفَةِ"، قُلْتُ ـ أي الذهبي: أَهْلُ المَدِيْنَةِ يَترخَّصُونَ فِي الغِنَاءِ، هُم مَعْرُوْفُوْنَ بِالتَّسَمُّحِ فِيْهِ".

 

قال الخليلي: هو وإخوته يرخصون في السماع، وذكر عن يحيى بن معين حكايته، ثم أتبعها بقوله:"هو وإخوته وابن عمه يعرفون بذلك، وهم في الحديث ثقات، مخرجون في الصحاح".

 

العود في مجلس الحديث

ويبدو أن أحد هؤلاء العلماء المترخصين في السماع وهو إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ المدني قرر أن يظهر لأهل العراق خطَلَ تشنيعهم في شأن السماع، فأقسم أن لا يحدِّث بسند حتى يغني قبله بعوده، في قصة طريفة رواها الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام، "قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بن سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْعِرَاقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، فَأَكْرَمَهُ الرَّشِيدُ وَأَظْهَرَ بِرَّهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْغِنَاءِ فَأَفْتَى بِتَحْلِيلِهِ. وَأَتَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِيَسْمَعَ مِنْهُ، فَسَمِعَهُ يَتَغَنَّى فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْمَعَ مِنْكَ، فَأَمَّا الآنَ فَلا أَسْمَعُ مِنْكَ.

 

فَقَالَ: إِذًا لا أَفْقِدُ إلا شخصك، وعليّ وَعَلَيَّ إِنْ حَدَّثْتُ بِبَغْدَادَ حَدِيثًا حَتَّى أُغَنِّيَ قَبْلَهُ. وَشَاعَتْ هَذِهِ عَنْهُ بِبَغْدَادَ، وَبَلَغَتِ الرَّشِيدَ، فَدَعَا بِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي قَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّرِقَةِ [2] ، فَدَعَا بِعُودٍ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَعُودُ الْبُخُورِ؟ قَالَ: لا وَلَكِنْ عُودُ الطَّرَبِ. فَتَبَسَّمَ، وَفَهِمَهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ بَلَغَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ السَّفِيهِ الَّذِي آذَانِي بِالأَمْسِ وَأَلْجَأَنِي إِلَى أَنْ حَلَفْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَدَعَا لَهُ الرَّشِيدُ بِعُودٍ، فَغَنَّاهُ:

 

يَا أُمَّ طَلْحَةَ إِنَّ الْبَيْنَ قَدْ أَزِفَا  قَلَّ الثِّوَاءُ لَئِنْ كَانَ الرَّحِيلُ غَدَا

 

وَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: مَنْ كَانَ مِنْ فُقَهَائِكُمْ يَكْرَهُ السَّمَاعَ؟ قَالَ: مَنْ رَبَطَهُ اللَّهُ.

 

قَالَ: فَهَلْ بَلَغَكَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا شَيْءٌ؟

 

قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مَدْعَاةٍ كَانَتْ فِي بَنِي يَرْبُوعٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ جِلَّةٌ، وَمَعَهُمْ دُفُوفٌ وَمَغَانٍ وَعِيدَانٌ يُغَنُّونَ وَيَلْعَبُونَ، وَمَعَ مَالِكٍ دُفٌّ مُرَبَّعٌ وَهُوَ يُغَنِّيهِمْ:

 

سُلَيْمَى أَجْمَعَتْ بَيْنَا  فَأَيْنَ لِقَاؤُهَا أينا

 

وَقَدْ قَالَتْ لِأَتْرَابٍ لَهَا زَهْرٌ تَلاقَيْنَا

 

تَعَالَيْنَ فَقَدْ طَابَ لَنَا الْعَيْشُ تَعَالَيْنَا

 

فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَوَصَلَهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ"، ولعله يعني مالكا المغني وذلك من سرعة بديهته وظرفه.

 

وهو معدود في العلماء الثقات وأحد رجال البخاري، وقد وثقه غير واحد، قال عنه ابن سعد في الطبقات: كان ثقةً كثير الحديث.

 

وإلى الحلقة القادمة.

 

نقلا عن صحيفة الأخبار إنفو الأسبوعية

الأحدث