تخطى الى المحتوى

أحمد البدوي بن محمدا، حياته وإشعاع أنظامه... (الأخيرة)

جدول المحتويات

 

وهناك عدة احتمالات لوصول هذا النظم إلى العلامة الألوسي البغدادي، من أقواها أن ذلك كان عن طريق العلامة محمد أمين بن عبدي بن فال الخير الحسني الشنقيطي (1933-1876م) الذي انتقل من مكة إلى الكويت، وأقام بالزبير(جنوب العراق) وفيها أسس مدرسة النجاة المشهورة في الخليج كله. وكان له دور بارز في الحياة العلمية والسياسية هناك.

 

ومع احتمال أن يكون محمد أمين قد أخذ هذا النظم في صباه وبلده، فإنه قد درسه دراسة علمية على عالم شنقيطي في مكة المكرمة. فقد كتب في مذكراته الجزئية التي نشرت في كتاب حياة "الشيخ محمد أمين الشنقيطي" لعبد اللطيف أحمد الدليشي الخالدي (1910-1996م) ما نصه: "وكنت عازما على الرجوع إلى المغرب ولكن شيخي أحمد سالم بن الحسن الديماني الذي كان صديقا لوالدي مرض في تلك السنة فأقمت معه أمرضه"… إلى أن يقول: "فقرأت عليه جانبا حسنا من أقرب المسالك في الفقه ومنظومة البدوي الشنقيطي في أنساب العرب ومنظومة المغازي النبوية".

 

وأثناء إقامته في الزبير وقعت معارك بين العثمانيين والغزاة الإنجليز (الحرب العالمية الأولى) شارك هو فيها بنفسه ذودا عن تلك الديار الإسلامية. فلما انهزم الأتراك وتقدم البريطانيون لاحتلال البصرة 1915م، ارتحل إلى بغداد، فنزل بها لدى أسرة أحد تلامذته، حيث لقي الترحاب والإكرام. وهناك توافد عليه عدد من العلماء كان من بينهم على وجه الخصوص العلامة محمود شكري الألوسي.

 

بل يذكر الدليشي أن محمود شكري الألوسي كان يزور الشنقيطي في بغداد وأنه "ربما كانت بينهما معرفة سابقة لاختصاصه بـزيارته".

 

وفي الحقيقة فإن بين الرجلين تشابها وتواردا في التوجهات الفكرية والمواقف السياسية. فكلاهما يتبادل العداء والبغضاء مع الاحتلال الانجليزي، ويساند الخلافة الإسلامية، ولو لم يكن منها إلا ما يمثله العثمانيون. كما أن لهما نفورا شديدا من البدع والخرافات السائدة، واندفاعا لنشر العقائد السنية السلفية، وإصلاح وتعميم النظم التعليمية.

 

ومع أن إقامة ابن فال لم تطل في بغداد ولم تتجاوز بضعة أشهر بسبب زحف أعدائه الإنكليز عليها، فإن فترته فيها كانت كافية لاطلاع الألوسي على منظومة عمود النسب والحصول عليها منه، وكان ذلك سنة 1915م وهو ما يتناسب مع ما سيأتي من أن الألوسي أنهى الجزء الأول من شرح هذا النظم بعد ذلك بحوالي ثلاث سنوات.

 

إلا أن أهم إشكال يرد على هذا الافتراض القوي، هو أن الألوسي في بداية شرحه لم يذكر أنه أخذه عن الشنقيطي، كما لم يذكر اسم الناظم الصحيح الذي كان الشنقيطي يعرفه، وذكره في مذكراته كما مرَّ قريبا. كما لم يذكر تلميذه المقرب بهجة الأثري ذلك.

 

وهناك شنقيطي آخر ذكره السيد الأثري في مقاله عن منظومة البدوي وشرح الألوسي لها. حيث قال: "للشنقيطيين في هذه المنظومة اعتناء عظيم على ما سمعته من الفاضل الشيخ محمد الشنقيطي لما كان نزيل بغداد سنة 1340هـ (1922م) وهو يحفظها حفظا جيدا".

 

ومن الواضح أن هذا الاسم: "محمد الشنقيطي" غير محقق ولا دقيق. ولكني أرجح أنه يعني العلامة محمد محمود التندغي الذي كان من علماء الشناقطة في الحرمين قبل أن يهاجر إلى العراق وينزل في بغداد في تلك الفترة، في ضيافة الملك فيصل الأول بن الحسين (1883-1933م)، وقد رحل بعدئذ إلى الأردن حيث أقام وتوفي رحمه الله. وكان عالما مدرسا آية في الحفظ والعلم. وهو وإن اشتهر اسمه بنسبه التندغي فإنه كان معروفا بانتمائه إلى أهل شنقيط. كما أن من عادة المشارقة عدم الانتباه للتركيب الشائع في أسماء الشناقطة.

 

وعلى كل حال فإنه إن كان هو المعني لا يمكن أن يكون المصدر الأول لنظم عمود النسب بالنسبة للألوسي؛ لأنه قد ابتدأ شرح القسم الثاني منه، وهو نسب قحطان وما تفرع منه، "في سادس جمادى الآخرة سنة 1336هـ"(1918م) كما ذكر الأثري في "أعلام العراق".

 

وهناك احتمال آخر بدا لي قويا أيضا، وهو أن مصدر هذه المنظومة لشارحها هو بغداد نفسها. أي أنه وجدها بين مخطوطات مكتبة جده الألوسي الكبير المفسر!.

 

فبالدراسة والمقارنة يتضح هذا الاحتمال الثالث وهو أن الألوسي الحفيد ليس هو مقتنص هذه المنظومة من الشناقطة مباشرة، وإنما اقتنصها "له" جده من صائد الكتب وجامعها وباذلها: الشيخ أحمد عارف حكمت بن عصمت باشا (1786-1859م) صاحب المكتبة الشهيرة باسمه التي وقفها على طلاب العلم بالحرم النبوي وأصبحت اليوم جزءا من مكتبة الملك عبد العزيز في المدينة المنورة.

 

ويتعزز هذا الاحتمال بما جاء في رحلة الألوسي الكبير التي دونها في كتابه "غرائب الاغتراب" حيث ذكر فيها أن عارف حكمت "أجازه الشيخ أحمد المالكي المغربي الشنقيطي إجازة عامة بأرجوزة طويلة". لكنه لم يذكر اسمها ولا مضمونها.

 

بل يكاد الأمر ينجلي عن ذلك الاحتمال حين نجد الألوسي يقول في مقدمة شرحه إن الناظم هو "الفاضل الشيخ أحمد الشنقيطي المغربي".

 

وهو ـ تقريبا ـ نفس الاسم، بذات الصفة، الذي قال الألوسي الجد إنه أجاز شيخَه عارف حكمت في تلك الأرجوزة، التي نرجح بذلك أنها ليست إلا نظم عمود النسب لأحمد البدوي بن محمدا، ومن ثم يكون الألوسي المفسر (الجد) بدوره قد أخذها عن شيخه عارف حكمت.

 

وكما قدمنا فقد نشرت مجلة المجمع العلمي في دمشق وصفا وافيا عن هذا الكتاب في عددها الرابع بقلم تلميذ المؤلف؛ وهو علامة العراق محمد بهجة الأثري، الذي كان رئيس المجمع العلمي في العراق وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق وعَمّان والقاهرة، وكان ذلك في حياة المؤلف.

 

يقول الأثري، بعدما أفاض في مدح المنظومة وذكر محاسنها ووصف مضامينها: "… وهذا ما دعا أستاذنا العَيْلم الشهير السيد محمود شكري الألوسي حفظه الله إلى شرحها وإيضاح مجملاتها وحل رموزها وكشف اللثام عن وجوه مخدراتها وإزالة غياهب الظلام عن فرائدها وفوائدها".

 

ثم أورد في وصفه كامل مقدمة الناظم، وهي ثلاثون بيتا؛ من قول أحمد البدوي:

 

حَمْدًا لِّمَن رَفَعَ صِيتَ الْعَرَبِ ** وَخَصَّهُــمْ بَيْــنَ الأَنَامِ بِالنَّبِي

إلى قوله:

ولستُ إلاَّ مِن مَّشاهِير الكُتُبْ ** آخُـــذُ، فَلْيُزَكِّـهَا أوْ لِيَسُــبْ

 

وقد جاءت مطابقة في ترتيبها وحروفها للأصول التي بين أيدينا هنا.

 

ثم قدم المقال بيانا وصفيا لهذا الشرح فقال:

"تصدى شيخنا الأستاذ الكبير علامة الديار العراقية السيد محمود شكري الألوسي حفظه الله قبل عدة سنوات إلى شرح هذه المنظومة التي لم ينسج على منوالها أحد، وحلَّ رموزها وأوضح مبهماتها وأطنب في الإيضاح والبيان في الغالب منها وأجاد كل الإجادة كما هي عادته الشريفة، ولم يترك لأحد مجالا في القول. فجاء من أبهر الآيات وأعظم المعجزات في بابه وأحسن المؤلفات ترتيبا وترصيفا في فنه، وأعظمها فائدة وأكثرها عائدة. شكر الله عمله المحمود.

 

وهو في ثلاثة مجلدات بلغ عدد صفحاتها نحو 1000 بقطع الربع وتستوعب كل صفحة ما بين 18 و 19 سطرا بخطه اللطيف".

 

ثم أورد فقرات وصفحات كاملة من نص شرح الألوسي هذا. وقد جاء في مقدمته:

"الحمد لله الذي اختار العرب من بين أنواع الإنسان وخصهم بخصائص في الخَلق والخُلق وفصاحة اللسان، وجعلهم قبائل مختلفين في العادات والعبادات واللغة والبيان، وفرَّعهم من أصلين كريمين: عدنان وقحطان. والصلاة والسلام على المؤيد بإعجاز القرآن الذي اعتزت به العرب وافتخرت بفضله في كل زمان….

 

أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى الهادي، محمود شكري بن عبد الله بن محمود الألوسي الحسيني البغدادي. كان الله له وتقبل عمله: إني وجدت منظومة بديعة أرجوزة كأنها عقود جمان، تتحلى بفرائد فوائدها الأفواه والآذان، لم يسبق ناظمها إلى مثلها في علمها وعملها سماها عمود النسب. وقد اشتملت على نسب النبي (ص) وأصحابه أخيار العرب. كيف لا وناظمها فاضل عصره وأستاذ دهره الشيخ أحمد الشنقيطي المغربي.

 

فلما رأيتها وجدتها قد حوت من علوم العرب على كنوز، ومن أخبار أخيارهم على صريح ورموز. غير أن كثيرا من أبياتها كالألغاز، ولإيجازها كادت تكون آيات إعجاز. غير أنها بكر لم تزف لأحد من ذوي العرفان، وغواني مسائلها لم يطمثهن إنسان ولا جان. ولم يكن لها شرح يوضح تلك المجملات، ويبين هاتيك الرموز والإشارات؛ فهي درة لم تثقب وغرة من غرر الأدب. لم تزل تستر عن العيون وتحجب، فلذلك حرم من اجتناء ثمراتها الطالبون من أفنان فنون العرب.

 

فشرحتها شرحا يكشف عن وجوه مخدراتها اللثام، ويزيل عن فرائد فوائدها غياهب الظلام. وسميت ما كتبته وأوضحته وهذبته شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي النسب والحسب. تجاوزت فيه الاختصار المخل والتطويل الممل. واكتفيت بما يبين المراد وما يقوم بانضباطها، وسلكت الطريق الوسط وخير الأمور في أوساطها. ومعتمدي في شرحها بعد الاستعانة بالله تعالى على كتب اللغة كالصحاح والقاموس واللسان، وعلى ما ألف في الصحابة والسير… الخ.

 

الجهل بصاحب النظم، والوهم الغريب!

مما لا ريب فيه أن العلامة محمد بهجة الأثري هو أحد عمالقة العلم واللغة والأدب الذين يفتخر بهم العراق والأمة العربية. ولولا مواقفه السياسية المعارِضة لدعم الحلفاء في الحرب العالمية، والارتياب في وعودهم الكاذبة، والتحفظ على إسقاط الخلافة الإسلامية… لكان له ذكر أشهر ومقام أكبر في العراق الحديث، وإعلامه وإكرامه.

 

 وعلى كل حال فقد وصف الأثري في هذا المقال القيم كتاب شيخه الألوسي: "شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي النسب والحسب". كما قدم فيه نموذجا موجزا من منظومة الأنساب. لكنه ـ كما ذكرنا ـ أخفق إخفاقا عجيبا ووهم وهما غريبا في اسم صاحبها أحمد البدوي بن محمدا الشنقيطي!.

 

فقد كتب بهجة الأثري في صدر هذه المقالة المهمة، مُعرفا بالناظم: "وهو على ما في (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) العالم الكبير والنسابة الشهير الشيخ أحمد المالكي المغربي الشنقيطي الذي أحيا أنساب العرب بنظمه عمود النسب…" الخ.

 

وتكرر منه هذا الغلط (دون ذكر الوسيط) في هامش الصفحة 150 من كتابه المطبوع: "أعلام العراق".

 

ونعلم أن صاحب الوسيط إنما كتب ـ في الصفحة 350 ـ: " أحمد البدوي المجلسي ثم البوحمدي، هو العالم الكبير والنسابة الشهير…" الخ.

 

ولو لم يستشهد الأثري بنص الوسيط حرفيا، فيما سوى اسم الناظم، لكان الظن هو أن هذا التحريف الغريب منشؤه الاعتماد على الألوسييْن قبله. أما وقد أورد جل ما كتبه صاحب الوسيط بحروفه تقريبا، ثم حذف منه جوهره وهو اسم المؤلف وأبدله بما في الألوسي من خطإ… فهذا غريب حقا!.

————–

ملاحق:

 

 

الأحدث