جدول المحتويات
والحقيقة أن حديث الرئيس الأخير معه قد ردم بدفقاته وتفاصيله الغامضة بالنسبة له، ما كان أثاره في البداية من الشوق والحماس. بل يشعر الآن بالسوية بين اتصاله وعدم اتصاله… فالملل من الاستماع قد أطفأ الأمل في الانتفاع! لذلك مرت عدة شهور دون أن يشعر بأي شوق أو رغبة قوية في اتصال الرئيس به، وربما أصبح على استعداد لنسيان الموضوع برمته. ولا أدل على ذلك من رغبته عن مشاهدة التلفاز عموما، وعدم استعداده، على الإطلاق، لبذل ثانية واحدة في مشاهدة التلفزة الـﮕنارية خاصة!. الآن مع انسلاخ الشهر العاشر ها هو الرئيس يتصل:
* آلو…
* مرحبا بالسيد الرئيس… حيدره، حيدره.
* كيف أنت اليوم السيد انجاي؟ أرجو ألا أكون أبطأت في الاتصال بك…
* بكل خير سيدي الرئيس… أقدر مشاغلكم العظيمة وشكرا على تذكري والاهتمام بي مع أني لا أستحق ذلك بالتأكيد. مع ذلك أود أن أعرف كيف حالك وكيف جرت الأمور من بعد ما افترقنا، أقصد من بعد اتصالنا الأخير قبل أشهر… هل كل شيء يجري كما ينبغي في ﮔنار؟
* إنها بضعة أشهر مرت بسرعة بسبب المشاغل الجمة. واليوم ها أنا أسعد بلقائك ومشورتك.
* مشورتي أنا؟!
* اسمع: أريد أن أفاتحك في الموضوع مباشرة. أريد بركتك ودعواتك، ثم استشارتك في الكثير من الأمور…
* هل هناك أمر يمكنني حقا أن أفهمه وأنفع فيه، أعني من أمور الرئاسة؟!
* أجل، أريد رأيك ومساعدتك من أجل قهر المصاعب الجمة التي أواجهها والتي لا قبل لي ولا أيضا لغيري بها… آه…
سكت الرئيس لحظة فعلق انجاي:
* لكن سيدي الرئيس هذا عجيب؛ أنت رئيس الدولة ولديك الوزراء والمستشارون، أعتقد أن لديك كل شيء في الواقع… وتطلب رأي هذا العجوز المغمور في حي فقير باللوغة، هل تسخر مني حقا؟ لا يغضبني ذلك!
قاطعه الرئيس مستلطفا:
* كلا، معاذ الله. اسمع: أنا جاد جدا؛ فقبل كل شيء أنت صديق بل وأستاذ، ونحن لدينا تقاليد تقتضي أن الحكمة توجد في كل مكان وليس فقط بالقرب منا، بل قد توجد في غير مظنتها كما يقولون… أرجوك افهني لا أقصدك أنت؛ بل إني واثق من أنك منبع للحكمة كما هو حال الشيوخ السنغاليين… ولعلك لا تعلم كم أكن لهم من الإعجاب والاحترام، فأنا كما تعلم سيغالي النشأة والهوى أيضا.
* صحيح، أقدر ذلك وفي الحقيقة لن أبخل عليك برأيي المتواضع في أي شيء أتقنه، ولكني ما زلت لا أفهم الأمر جيدا… أقصد أن الرئيس عادة محاط بالمستشارين والخبراء العارفين والشيوخ والعلماء و…
هنا تدخل الرئيس موضحا:
* اسمعني، هذه هي المعضلة! إن مشكلتي الحقيقية هي كثرة المستشارين والوزراء والخبراء والشيوخ والوجهاء… لقد تكاثروا علي حتى لم أعد أعرف ما أفعل وبأيهم استعين ولأيهم أستمع!
كنت اعتقد أن مشكلة الرؤساء هي في البطانة السيئة وأنا أعرف أسوأ تلك البطانات، لذلك رفعت شعار محاربة المفسدين ولقي صدى كبيرا لدى الناس… غير أني فوجئت بأن الأمر يشبه الطوفان! لقد أقبلوا علي من كل فج، بينما اختفى المصلحون والطيبون وكأنهم ليسوا في الوجود. أما المنافقون والمتملقون والانتهازيون فيتمسحون بي كل ساعة ولا أفكر في أمر، ولا أهم بقرار إلا وجدتهم من حولي يتسابقون لتنفيذه وإقناع الناس بمحاسنه… إنهم يتظاهرون بالبراءة ولكن استعدادهم وشدة رضاهم وسرعة استجاباتهم وفعالية مواجهتهم للمعارضين والحاسدين والحاقدين… لا تترك المجال للتخلص منهم. فأين البديل؛ إما أنه معارض حاقد أو مختفٍ هارب… أو شخص حالم غير واقعي قد يعرضني بمثاليته واستقامته أنا وحكمي للضغط والخطر. لهذا فلا أجد من هذا الكم البشري الهائل أي أحد أثق به… بل علي أن أظل حذرا أراقب كل شيء بنفسي، وهذا يرهقني ويربكني… آه يا صديقي ما أحلى الرئاسة، وما أصعب أن تكون رئيسا وتحظى بالراحة! أنا من بعدك أعيش في جحيم داخل النعيم أو نعيم داخل الجحيم!!
* عجيب! كنت أعتقد أن الرئيس لا يباشر كل أمر بنفسه، بل يعتمد في كل أمر على أهله العارفين به ويكون رقيبا عتيدا عليهم… أليس لديك ما يكفي من المساعدين؟
* بلى، مكاتب القصر تضج بهم كما أخبرتك!. كلما واجهتني مشكلة أعين مستشارا، وكلما أعجبني شخص أو حدثوني عن مؤهلاته أعينه مستشارا… لكن أجد أن هذا لا ينفع وذلك لا يغيث! فيبقون كَلاًّ علي؛ لأن طردهم قد يضر بمصداقية الرئاسة!. دعني اعترف لك بشيء آخر… أنا في الحقيقة رئيس ناجح ولكني استشاري فاشل! أقصد أني لا أعرف كيف أستفيد من المستشارين ولا كيف أثق بهم. قد تكون العلة هنا!. ففي كل أمر أتخذ بنفسي القرار دون استشارة مستشار، وربما أعتمد على رأي أشخاص آخرين خارج دائرة الرئاسة والحكومة! إن أصعب شيء في هذا الأمر هو وجود مستشار مناسب، كفاءةً وأمانة… لكن الأصعب من ذلك ، بالنسبة لي، هو التخلي عن آرائي الخاصة والأخذ برأي المستشارين والمعاونين. على الأقل في الأمور التي أهتم بها. والحقيقة أن هناك أمورا كثيرة يصعب علي الاهتمام بها أو حتى تذكرها، وهذه أتركها للمستشارين في الغالب، ولكن مشورتهم واقتراحاتهم تذهب سدى، لأني لا أجد الوقت ولا المتعة في معالجتها، فتبقى حبيسة الأدراج لتتراكم وتفوت الفائدة منها… آه، ما ذا أقول لك؟! الأمور أصعب من هذا بكثير…
سكت الرئيس برهة ليتدخل انجاي متعاطفا:
* هل تخشى على نفسك؟ أقصد هل تخشى فقدان الرئاسة بسبب انتخابات أو انقلاب عسكري مثلا؟
* لا، لا أخشى أي انقلاب… والانتخابات انتهت بفوزي بشكل رائع وواضح من الشوط الأول ـ كما أخبرتك من قبل ـ أما الانقلابات فنحن بصدد تحريمها، وأيضا هناك موانع عديدة وعقبات ليس بإمكان أي ضابط اقتحامها كما فعلت أنا ونجحت… نحن نسير نحو ديمقراطية آمنة وحرية تضمن التنفيس عن الشعب وتضامن العالم معنا. من هذه الناحية كن مطمئنا. لكن تسيير الأمور مع ذلك يزداد صعوبة خاصة مع ارتفاع أصوات المعارضة وضجيجها المزعج، وانعدام من يعتمد عليه بشكل تام.
* هكذا هي الأمور الجليلة ليست سهلة… لكن عليك البحث عن أصحاب الذمم النظيفة والأيادي الماهرة والعقول الراجحة…
علق انجاي، فقال الرئيس مقاطعا:
* أدرك ذلك ولكن من أين لي بهم؟ كما قلت لك: في كل مرة أجدني أعين شخصا قديما من نفس الفئة الملوثة، إنها كالإخطبوط تحيط بك ولا تترك لك أي خيار للإفلات منها… والأخطر في الأمر أنها تزيد من حدة الجفاء والتدابر بيني وبين المعارضة، فتزداد هي قوة وأزداد أنا عزلة في الواقع… الأمر في غاية الصعوبة، ولا أجد من يستحق أن أبثه هذه الأحزان في بلاد ﮔنار كلها… لأن المستمعين والمتجاوبين فيها لا يستحق أكثرهم الثقة ولا يمنح الاطمئنان. إنه أمر صعب؛ المشاكل تزداد، وفي كل يوم أكتشف أن المحيطين بي هم مصدر وغذاء هذه المشاكل… إنهم بلا فائدة، وليتهم بلا فائدة فقط… لكنهم مضرون!. حينما أفكر في أي مشروع طموح يبادرون بمباركته والقول إنه سهل التحقيق عظيم الفائدة… وحين يظهر عكس ذلك على أرض الواقع يطأطئون رؤوسهم فقط!!
وهناك أيضا الأنصار الذين لا أعتمد عليهم ولا أثق بهم مطلقا، بل لا أعرف بعضهم… يملئون وسائل الإعلام بالتصريحات والآراء المنافقة التي تمجدني وتثني على إنجازاتي… بما فيها تلك التي ظهر فشلها وأخرى لا أساس لها أصلا! صدقني، كل يوم أنظر من حولي فلا أجد إلا نفس الوجوه التي كنت أود القضاء عليها؛ بل عاهدت الشعب على محاربتها، أو أخرى عديمة النفع!.
باختصار هؤلاء المنافقون الذين أعرفهم يتملقون الحكام السابقين بنفس الاندفاع الرخيص والتزلف البغيض هم الآن "أغلبيتي الرئاسية"… وهم عبء ثقيل على كاهلي!. بالإضافة إلى مشاكل البلد التي لا أجد لها مصرفا. وبسبب الإكراهات السياسية، والحيرة وقلة الحيلة أحيانا أجدني مضطرا لتعيين بعض هؤلاء في وظائف كبيرة، لأني أعرف أنهم لا عهد لهم ومن السهل أن ينقلبوا ضدي ويعززوا معسكر المعارضة بمجرد يأسهم من المكافأة…
المعارضة أيضا سيئة. إنها الوجه الآخر لهؤلاء فهي مليئة بالمفسدين والانتهازيين والحاقدين الحاسدين بشكل خاص، الذين لا يبحثون عن الحق ولا عن المصلحة العامة، وإنما يودون هلاك الوطن والتقرب بمواطنيه للشيطان من أجل تحقيق غاياتهم الأنانية أو إلحاق الأذى بي أنا على الأقل. لا تظنن أنهم "حلف الفضول"! بل جمع الشر بينهم. ومنهم من يتسلل لواذا إلى مجالس بطانتي ليوحي باستعداده لترك سربه والالتحاق بركبي. ومنهم من يساوم دون حياء على ثمن بيع حزبه وزمرته. ومنهم من هو مغاضب نكص على عقبيه فأكرمني الله بتوليه عني!.
لكن هذه الهموم والمشاكل ليست كل شيء…
سكت الرئيس قليلا وتنفس زفرة، فتساءل بكاري بنبرة استنكار:
* وهل هناك ما هو أسوأ من ذلك؟ عليك أن تعتزل هؤلاء وتختار الأكفاء الصالحين فقط…
* الأدهى من ذلك والأمر يا صديقي وشيخي الفاضل أن هذا الشعب الذي أحاول خدمته هو منبت كل هذه الأغصان الفاسدة!!
دعني أصارحك بأمر أخطر وأشد علي من كل ذلك: إن الشعب الذي أحاول خدمته ليس شعبا متخلفا فقط، بل هو بعد ذلك شعب كفور وناكر للجميل! إنه لا يميز بين من يخدمه ويسعى لمصلحته وبين من يستعبده ويستغفله ويستغله… آه لو تعلم كم هو محبط أن ترهق نفسك بالنحت في حجارة العوز، والتسكع في أوكار اللصوص لتحقق إنجازا كبيرا أو تنشئ مشروعا عظيما لمصلحة البلاد… فلا يرى الناس من تلك الجهود وتلك الإنجازات شيئا، وإنما يجأرون من توافه الأمور كارتفاع سعر ليتر البنزين وصفيحة زيت الطبخ أو غش الدواء أو تغيب موظف مريض عن مكتب إدارة خاو. مع أن معظم المواطنين عندنا، حتى البسطاء الضعفاء، لا يترددون في الكذب والاحتيال وإتيان الباطل سبلا إلى كسب أي منفعة، سواء كانت لهم حقا، أو حتى لو كانت من حق الغير! صدقني يا انجاي، إن لدي شعبا كل واحد منهم "صاي صاي" و"دومو حرام" أيضا!!
سكت الرئيس سكتة تظهر من المرارة أكثر مما تخفي، فقال بكاري:
* هذا غريب ومقلق… ينبغي أن تكون الحقوق محددة بوضوح. ويكون العرفان بالجميل خصلة محمودة لدى الجميع.
* الحقوق؟ الواجبات! ليس في جمهورية ﮔـنار معنى محددا لهذه الكلمات إنها "متغيرات" بمفهوم المبرمجين بالمنطق الرياضي…
* ما ذاك، ما ذا يعني؟
* المعنى أن تضع قيمة افتراضية لرقم أو شيء ما، لتجعل تلك القيمة تتغير وتعطي نتائج مختلفة حسب الحالة أو الحاجة…
هنا يقاطعه انجاي بلباقة:
* حسنا هذا من المسائل البعيدة عن فهمي ومستواي المعرفي الداني، لا تتعب نفسك بشرحه يا ابني العزيز!.
* لا أدري كيف تعلمت ذلك أنا أيضا! لكني قصدت أن الناس عندنا في ﮔـنار يفسرون الحقوق والواجبات حسب حاجتهم ورغبتهم، وليس حسب الحق والقانون، ولا حتى اللغة؛ فحيث أرادو الباطل سموه حقا وحيث طلبوه من الغير حسبوه واجبا عليه!
* هذا غلط قبيح ومنطق باطل… كنت أعتقد أن الـﮕناريين رغم تواضع مظهرهم وطيبة معشرهم لهم باع طويل في العلم والمعرفة؟
* ربما، لكن الفرق بين العالم والجاهل يتضح من سلوكهما. وسلوك مواطني دولة ﮔـنار سلوك جهلي، إن الفوضى فيهم جبلية!! مثلا: لو أوقفت لخمسة منهم باصا أو طائرة خالية تسع مقاعدها خمسين شخصا، لازدحم الخمسة عند الباب وأمضوا ساعات في عراك أيهم يدخل أولا… لا أحد منهم سيرضى بأن يكون الأخير ركوبا على الإطلاق حتى لو جاء متأخرا أصلا. والنتيجة أنك ستخسر وقتا طويلا وربما يتضرر باب الدخول من هذه المعركة، التي ستحتدم بوطيس أحمى وخسائر أكثر عند النزول من الباص أو الطائرة… أو أي موطئ آخر!! وكذلك دأبهم في الحياة؛ يرى كل واحد منهم لنفسه الحق المطلق وليس لغيره إلا الحرمان! وما ينال بالكياسة والنظام… لا يحبون تناوله إلا بالشدة والخصام!!
* لكن إذا كانت هذه طبيعة الشعب، فما عسى أن تكون الدولة؟
* ليست إلا من هذه الطبيعة… لا تفلح في شيء تقرره، ولا ينجح لها أمر ولا عمل… كل شيء يتردى ويضمحل في النهاية دون بلوغ الغاية منه.
* لكن هذا خطأ أيضا… على الدولة أن تكون القدوة والمشرف الصادق الصارم، لتنجح في تغيير هذه الطبائع والمسالك الشائنة. يجب ألا تقبل إلا الصحيح وهي وحدها من لديها ملاك الأمر كله في النهاية…
* الحقيقة المؤسفة أن الدولة لا يحترمها الناس ولا يؤمنون بها. ولهذا أردت حين استلمت أمرها أن أعيد إليها بعض ممتلكاتها المنتهبة، وأزيد أرصدتها المالية. وليس هذا بالأمر الهين. لقد ثار علي المفسدون. وانتهزتها المعارضة المغرضة فرصة للنيل مني، والادعاء بأني أستخدم الدولة وسلطتها لتصفية حسابات شخصية، وهذا لا دليل عليه البتة. إنهم يستخدمون الحرية المطلقة التي منحتها لهم للافتراء والغمز واللمز…
سكت الرئيس لحظة، وكأنه يتذكر المزيد مما يشكوا منه ويبثه عبر هذه الاتصالات الشخصية:
* الأمر لا يوصف يا عمي العزيز. أحيانا أتمنى لعدة لحظات أن لم أكن رئيسا، وأتخيل أنه كان الأفضل لي أن أكون تابعت التمرن في ورشة انجاي وبقيت أعمل فيها حتى أفتح ورشتي الخاصة وأعمل بكل حرية…
هنا قاطعه بكاري باستنكار:
* لا، هذا لا يجوز التفكير فيه ابدا، شريف نبيل مثلك حقق كل هذه الأعمال الجليلة والنجاح الباهر لا ينبغي إلا أن يكون رئيس دولة… فلا تقل هذا، إنما تسخر من ورشة انجاي بذلك!
* كلا، كلا. بل أحدث عن حال الدنيا؛ فلا يجد الإنسان فيها ما يرضيه مطلقا ولا ينال الراحة الكاملة في أي ركن من أركانها مهما كان علوه!.
استحسن بكاري هذه الخرجة الفلسفية وسرته في نفسه فقال:
* نطقت بالحكمة المطلقة يا سيدي… إنك من العارفين الصالحين. حيدره، حيدره… لكن سيدي الرئيس على قدر كل منصب نصَـبُه ولكل نفيس ثمنه. فنحن البسطاء في ورشاتنا الصغيرة والفقراء في أعمالنا المتواضعة ابتلانا الله بالفقر وضنك الحياة، وأكرمنا ـ سبحانه ـ بقلة الهموم والتكاليف وبراحة البال عموما. وانتم الرؤساء والكبراء أكرمكم الله بالمناصب السامية والنعم الضافية وسيادة الناس ولكنه ـ سبحانه ـ ابتلاكم بكثرة الهموم وشدة التكاليف وقلق البال… فجوهر الإنسان يظل واحدا مهما اختلفت المؤثرات وتباينت في ذاتها!
* هذا بالضبط ما قصدت قوله، لأن نعمة راحة البال وطمأنينة النفس قد تفوق متعة السلطة والمال… غير أنه ما من أحد ـ في العادة ـ يرغب عن الرئاسة؛ البعض ياخذها ويتجاهل مسئولياتها. ولا ريب أن من يرأس دولة ﮔـنار حري به أن يكون كذلك لصعوبة حكمهم وشدة مراسهم وأنانيتهم…!!
* حقا؟ إن ذلك يؤسفني، وغير متوقع، وغير لائق على كل حال. أعانك الله عليهم!
* آمين، أجل عزيزي بكاري. أولئك قوم لا تعرف كيف تنال رضاهم، فإن سستهم بالشدة والاستبداد خضعوا لك وثار ضميرك، وإن سستهم باللين والعدل استهانوا بك وثاروا ورموك بالحق والباطل واقتحموا أسوارك!
* ما أصعبها من معادلة سيدي الرئيس! أعتقد أن على أهل ﮔـنار حمد الله وشكر آلائه عليهم برئاستك لهم وأنت الشريف المؤمن بهذه الأفكار النيرة والسيرة النبيلة…
* ما لهم بذلك من عرفان؛ هل تدري ما يقول بعضهم في رئاستي؟
* وهل فيها ما يقال بعد كل ذلك؟!
* هم يشككون بالطبع في كل أمر لا يروقهم. والذين لا تعجبهم رئاستي لا يتركون فرصة للنيل منها ووصفها بالفساد وعدم الشرعية… إلى آخر الافتراءات!
* ما ذا يريدون! ألم تخلع لامة العسكر وتترك لهم حرية الاختيار؛ فانتخبت بشكل ديمقراطي حر أمام الجميع؟!
* بلي، بكل تأكيد. لكن البعض من الناس ولاسيما من المعارضة المعادية يقولون إن رئاستي مثل الميتة: لا تفيد فيها الذكاة كما يقول الفقهاء!! أي أن سابقة وصولي للسلطة بالانقلاب العسكري تحجب عني الشرعية الديمقراطية بشكل مطلق. وهذه حجة داحضة بالطبع. ومع ذلك يزيد بعض المغرضين عليها "تهما جنائية" خطيرة كالقول بأن انقلابي العسكري قد ألحق أضرارا معنوية ومادية بجمهورية ﮔـنار الإسلامية!
* أضرار؟! مثل ما ذا؟
* لا أدري! لا يهم. بعضهم يقول إن الانقلاب شوه صورة دولة ﮔـنار الجميلة التي تبرجت بها أمام العالم حين تخلى الجيش عن السلطة فيها وسلمها للسياسيين المدنيين في انتخابات مشهودة لا يشارك فيها مباشرة… ويقولون إن ذلك المكسب المعنوي السياسي كان سيخلص البلاد من الأحكام العسكرية ويجلب لها استثمارات وهبات مالية عظيمة… الخ. هل تصدق هذه الترهات…؟!
* هذه أمور محيرة، ولكني أصدقكم أنتم، واعتقد أنكم لا يمكن أن تتعمدوا فعل شيء يضر ﮔـنار، وأنكم قادرون على تصحيح هذه المفاهيم إن كان لها أي أساس أصلا….
هنا يقاطعه الرئيس:
* السيد بكاري، استسمحك لدي شاغل طارئ الآن وسوف أعاود بك الاتصال قريبا إن شاء الله لنواصل الحديث والبحث الصحيح… لا تنس أنك أصبحت مستشاري. إلى اللقاء.
ينقطع الاتصال. ويتنفس بكاري الصعداء وقد شعر بالإرهاق والبعد عن واقعه، والغوص في أمور بدأ يفهم بعضها، ولا زال البعض عصيا على فهمه.
(يتواصل)